وإنما قيل : (الَّذِينَ كَفَرُوا) دون (الكافرون) لما في صلة الموصول من الإيماء إلى الإخبار عنهم بأنهم في عزة وشقاق. والعزة تحوم إطلاقاتها في الكلام حول معاني المنعة والغلبة والتكبر فإن كان ذلك جاريا على أسباب واقعة فهي العزة الحقيقية وإن كان عن غرور وإعجاب بالنفس فهي عزة مزوّرة قال تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ) [البقرة : ٢٠٦] ، أي أخذته الكبرياء وشدة العصيان ، وهي هنا عزة باطلة أيضا لأنها إباء من الحق وإعجاب بالنفس. وضدّ العزة الذلة قال تعالى : (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ) [المائدة : ٥٤] وقال السموأل أو غيره :
وما ضرنا أنّا قليل وجارنا |
|
عزيز وجار الأكثرين ذليل |
و (فِي) للظرفية المجازية مستعارة لقوة التلبس بالعزة. والمعنى : متلبسون بعزة على الحق.
والشقاق : العناد والخصام. والمراد : وشقاق لله بالشرك ولرسوله صلىاللهعليهوسلم بالتكذيب. والمعنى : أن الحائل بينهم وبين التذكير بالقرآن هو ما في قرارة نفوسهم من العزة والشقاق.
(كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ (٣))
استئناف بياني لأن العزة عن الحق والشقاق لله ولرسوله صلىاللهعليهوسلم مما يثير في خاطر السامع أن يسأل عن جزاء ذلك فوقع هذا بيانا له ، وهذه الجملة معترضة بين جملة (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ) [ص : ٢] ، وبين جملة (وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ) [ص: ٤].
وكان هذا البيان إخبارا مرفقا بحجة من قبيل قياس تمثيل ، لأن قوله : (مِنْ قَبْلِهِمْ) يؤذن بأنهم مثلهم في العزة والشقاق ومتضمنا تحذيرا من التريث عن إجابة دعوة الحق ، أي ينزل بهم العذاب فلا ينفعهم ندم ولا متاب كما لم ينفع القرون من قبلهم. فالتقدير : سيجازون على عزتهم وشقاقهم بالهلاك كما جوزيت أمم كثيرة من قبلهم في ذلك فليحذروا ذلك فإنهم إن حقت عليهم كلمة العذاب لم ينفعهم متاب كما لم ينفع الذين من قبلهم متاب عند رؤية العذاب.
و (كَمْ) اسم دال على عدد كثير. و (مِنْ قَرْنٍ) تمييز لإبهام العدد ، أي عددا كثيرا من القرون ، وهي في موضع نصب بالمفعولية ل (أَهْلَكْنا).