وعبر عن الرسول صلىاللهعليهوسلم بوصف المنذر : ووصف بأنه منهم للإشارة إلى سوء نظرهم من عجبهم لأن شأن النذير أن يكون من القوم ممن ينصح لهم فكونه منهم أولى من أن يكون من غير هم.
ثم إن كان التبعيض المستفاد من حرف (من) مرادا به أنه بعض العرب أو بعض قريش فأمر تجهيلهم في عجبهم من هذا النذير بيّن ؛ وإن كان مرادا به أنه بعض البشر وهو الظاهر فتجهيلهم لأن من كان من جنسهم أجدر بأن ينصح لهم من رسول من جنس آخر كالملائكة ، وهذه جدارة عرفية. وهذا العجب تكرر تصريحهم به غير مرة فهو مستقر في قرارة نفوسهم ، وهو الأصل الداعي لهم إلى الإعراض عن تصديقه فلذلك ابتدئت به حكاية أقوالهم التي قالوها في مجلس شيخ الأباطح كما تقدم في ذكر سبب النزول.
(وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ* أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ (٥)).
بعد أن كشف ما انطوت عليه نفوسهم من العزة والشقاق وإحالة بعثة رسول للبشر من جنسهم ، حوسبوا بما صرحوا به من القول في مجلسهم ذلك ، إشارة بهذا الترتيب إلى أن مقالتهم هذه نتيجة لعقيدتهم تلك.
وفي قوله : (الْكافِرُونَ) وضع الظاهر موقع المضمر وكان مقتضى الظاهر أن يقال: «وقالوا هذا ساحر» إلخ ، وهذا لقصد وصفهم بأنهم كافرون بربهم مقابلة لما وصموا به النبيصلىاللهعليهوسلم فوصفوا بما هو شتم لهم يجمع ضروبا من الشتم تأصيلا وتفريعا وهو الكفر الذي هو جماع فساد التفكير وفاسد الأعمال.
ولفظ (هذا) أشاروا به إلى النبي صلىاللهعليهوسلم ، استعملوا اسم الإشارة لتحقير مثله في قولهم : (أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ) [الأنبياء : ٣٦] وإنما قالوا مقالتهم هذه حين انصرافهم من مجلس أبي طالب المذكور في سبب نزول السورة جعلوا النبي صلىاللهعليهوسلم لقرب عهدهم بمحضره كأنه حاضر حين الإشارة إليه. وجعلوا حاله سحرا وكذبا لأنهم لما لم تقبل عقولهم ما كلمهم به زعموا ما لا يفهمون منه ـ مثل كون الإله واحدا أو كونه يعيد الموتى أحياء ـ سحرا إذ كانوا يألفون من السحر أقوالا غير مفهومة كما تقدم عند قوله تعالى : (يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ) في سورة البقرة [١٠٢]. وزعموا ما يفهمونه ويحيلونه مثل ادعاء الرسالة عن الله كذبا. وبينوا ذلك بجملتين : إحداهما (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً) ، والثانية جملة (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا) [ص : ٨].