هنا على الحكمة قرينة على أنه استعمل في معناه المجازي كما في قوله تعالى : (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً) [النبأ : ١٧].
والمعنى : أن داود أوتي من أصالة الرأي وفصاحة القول ما إذا تكلّم جاء بكلام فاصل بين الحقّ والباطل شأن كلام الأنبياء والحكماء ، وحسبك بكتابه «الزبور» المسمّى عند اليهود ب «المزامير» فهو مثل في بلاغة القول في لغتهم.
وعن أبي الأسود الدؤلي : (فَصْلَ الْخِطابِ) هو قوله في خطبه «أما بعد» قال : وداود أول من قال ذلك ، ولا أحسب هذا صحيحا لأنها كلمة عربية ولا يعرف في كتاب داود أنه قال ما هو بمعناها في اللغة العبرية ، وسميت تلك الكلمة فصل الخطاب عند العرب لأنها تقع بين مقدمة المقصود وبين المقصود. فالفصل فيه على المعنى الحقيقي وهو من الوصف بالمصدر ، والإضافة حقيقية. وأول من قال : «أما بعد» هو سحبان وائل خطيب العرب ، وقيل : (فَصْلَ الْخِطابِ) القضاء بين الخصوم وهذا بعيد إذ لا وجه لإضافته إلى الخطاب.
واعلم أن محمدا صلىاللهعليهوسلم قد أعطي من كل ما أعطي داود فكان أوّابا ، وهو القائل : «إني ليغان على قلبي فأستغفر الله في اليوم سبعين مرة» ، وسخر له جبل حراء على صعوبة مسالكه فكان يتحنّث فيه إلى أن نزل عليه الوحي وهو في غار ذلك الجبل ، وعرضت عليه جبال مكة أن تصير له ذهبا فأبى واختار العبودية وسخرت له من الطير الحمام فبنت وكرها على غار ثور مدة اختفائه به مع الصديق في مسيرهما في الهجرة. وشدّ الله ملك الإسلام له ، وكفاه عدوّه من قرابته مثل أبي لهب وابنه عتبة ومن أعدائه مثل أبي جهل ، وآتاه الحكمة ، وآتاه فصل الخطاب قال : «أوتيت جوامع الكلم واختصر لي الكلام اختصارا» بله ما أوتيه الكتاب المعجز بلغاء العرب عن معارضته ، قال تعالى في وصف القرآن : (إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ* وَما هُوَ بِالْهَزْلِ) [الطارق : ١٣ ، ١٤].
[٢١ ـ ٢٥] (وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (٢١) إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (٢٢) إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (٢٣) قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً