أن الله خلق شيئا من السماء والأرض وما بينهما باطلا فإن في الانتقال من دلالة الأضعف إلى دلالة الأقوى وفي تكرير أداة الإنكار شأنا عظيما من فضح أمر الضالين.
(كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (٢٩))
عقب الإمعان في تهديد المشركين وتجهيلهم على إعراضهم عن التدبر بحكمة الجزاء ويوم الحساب عليه والاحتجاج عليهم ، أعرض الله عن خطابهم ووجّه الخطاب إلى النبيصلىاللهعليهوسلم بالثناء على الكتاب المنزل عليه ، وكان هذا القرآن قد بيّن لهم ما فيه لهم مقنع ، وحجاجا هو لشبهاتهم مقلع ، وأنه إن حرم المشركون أنفسهم من الانتفاع به فقد انتفع به أولو الألباب وهم المؤمنون. وفي ذلك إدماج الاعتزاز بهذا الكتاب لمن أنزل عليه ولمن تمسك به واهتدى بهديه من المؤمنين. وهذا نظير قوله تعالى عقب ذكر خلق الشمس والقمر : (ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) في أول سورة يونس [٥].
والجملة استئناف معترض وفي هذا الاستئناف نظر إلى قوله في أول السورة (وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ) [ص : ١] إعادة للتنويه بشأن القرآن كما سيعاد ذلك في قوله تعالى : (هذا ذِكْرٌ) [ص : ٤٩].
فقوله : (كِتابٌ) يجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف ، والتقدير : هذا كتاب ، وجملة (أَنْزَلْناهُ) صفة (كِتابٌ). ويجوز أن يكون مبتدأ وجملة (أَنْزَلْناهُ) صفة (تابٌ) و (مُبارَكٌ) خبرا عن (كِتابٌ).
وتنكير (كِتابٌ) للتعظيم ، لأن الكتاب معلوم فما كان تنكيره إلا لتعظيم شأنه وهو مبتدأ سوغ الابتداء به وصفه بجملة (أَنْزَلْناهُ) و (مُبارَكٌ) هو الخبر. ولك أن تجعل ما في التنكير من معنى التعظيم مسوغا للابتداء وتجعل جملة (أَنْزَلْناهُ) خبرا أول و (مُبارَكٌ) خبرا ثانيا و (لِيَدَّبَّرُوا) متعلق ب (أَنْزَلْناهُ) ولكن لا يجعل (كِتابٌ) خبر مبتدأ محذوف وتقدره : هذا كتاب ، إذ ليس هذا بمحزّ كبير من البلاغة.
والمبارك : المنبثّة فيه البركة وهي الخير الكثير ، وكل آيات القرآن مبارك فيها لأنها : إمّا مرشدة إلى خير ، وإمّا صارفة عن شرّ وفساد ، وذلك سبب الخير في العاجل والآجل ولا بركة أعظم من ذلك.
والتدبر : التفكر والتأمل الذي يبلغ به صاحبه معرفة المراد من المعاني ، وإنما يكون