أصابه بهما حقيقة مع أن النصب والعذاب هما الماسان أيوب ، ففي سورة الأنبياء [٨٣](أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ) فأسند المسّ إلى الضر ، والضرّ هو النصب والعذاب. وتردّدت أفهام المفسرين في معنى إسناد المسّ بالنّصب والعذاب إلى الشيطان ، فإن الشيطان لا تأثير له في بني آدم بغير الوسوسة كما هو مقرر من مكرر آيات القرآن وليس النّصب والعذاب من الوسوسة ولا من آثارها. وتأولوا ذلك على أقوال تتجاوز العشرة وفي أكثرها سماجة وكلها مبني على حملهم الباء في قوله : (بِنُصْبٍ) على أنها باء التعدية لتعدية فعل (مَسَّنِيَ) ، أو باء الآلة مثل : ضربه بالعصا ، أو يؤول النّصب والعذاب إلى معنى المفعول الثاني من باب أعطى.
والوجه عندي : أن تحمل الباء على معنى السببية بجعل النّصب والعذاب مسببين لمسّ الشيطان إياه ، أي مسنّي بوسواس سببه نصب وعذاب ، فجعل الشيطان يوسوس إلى أيوب بتعظيم النّصب والعذاب عنده ويلقي إليه أنه لم يكن مستحقا لذلك العذاب ليلقي في نفس أيوب سوء الظن بالله أو السخط من ذلك. أو تحمل الباء على المصاحبة ، أي مسّني بوسوسة مصاحبة لضرّ وعذاب ، ففي قول أيوب (أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ) كناية لطيفة عن طلب لطف الله به ورفع النّصب والعذاب عنه بأنهما صارا مدخلا للشيطان إلى نفسه فطلب العصمة من ذلك على نحو قول يوسف عليهالسلام : (وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ) [يوسف : ٣٣].
وتنوين «نصب وعذاب» للتعظيم أو للنوعية ، وعدل عن تعريفهما لأنهما معلومان لله.
وجملة (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ) إلخ مقولة لقول محذوف ، أي قلنا له اركض برجلك ، وذلك إيذان بأن هذا استجابة لدعائه.
والرّكض : الضرب في الأرض بالرجل ، فقوله : (بِرِجْلِكَ) زيادة في بيان معنى الفعل مثل : (وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) [الأنعام : ٣٨] وقد سمّى الله ذلك استجابة في سورة الأنبياء [٨٤] إذ قال : (فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ).
وجملة (هذا مُغْتَسَلٌ) مقولة لقول محذوف دل عليه المقول الأول ، وفي الكلام حذف دلّت عليه الإشارة. فالتقدير : فركض الأرض فنبع ماء فقلنا له : هذا مغتسل بارد وشراب. فالإشارة إلى ماء لأنه الذي يغتسل به ويشرب.