أنه متولد من معنى السببية. والأحسن عندي أن يكون متولدا من معنى المصاحبة بطريق الاستعارة التبعية ثم غلب استعمال الباء في مثله في كلامهم فصار كالحقيقة لأنه لما صار إنشاء دعاء لم تبق معه ملاحظة الإخبار بحصول الرحب معهم أو بسببهم كما يتجه بالتأمل.
وجملة (أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا) علة لقلب سبب الشتم إليهم ، أي لأنكم قدمتم العذاب لنا ، فضمير النصب في (قَدَّمْتُمُوهُ) عائد إلى العذاب المشاهد ، وهو حاضر في الذهن غير مذكور في اللفظ ، مثل (حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ) [ص : ٣٢]. ووقوع (أَنْتُمْ) قبل (قَدَّمْتُمُوهُ) المسند الفعلي يفيد الحصر ، أي لم يضلنا غيركم فأنتم أحقّاء بالعذاب.
والتقديم : جعل الشيء قدّام غيره ، قال تعالى : (ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ* ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) [آل عمران : ١٨١ ، ١٨٢]. فتقديم العذاب لهم جعله قدامهم ، أي جعله حيث يجدونه عند وصولهم. وإسناد تقديم العذاب إلى المخاطبين مجاز عقلي لأن الرؤساء كانوا سببا في تقديم العذاب لأتباعهم بإغوائهم وكان العذاب جزاء عن الغواية. وجعل العذاب مقدما وإنما المقدم العمل الذي استحق العذاب ، وهذا مجاز عقلي في المفعول فاجتمع في قوله : (قَدَّمْتُمُوهُ) مجازان عقليان.
وقوله : (فَبِئْسَ الْقَرارُ) موقعه كموقع قوله آنفا (فَبِئْسَ الْمِهادُ)[ص : ٥٦]. وهو ذم لإقامتهم في جهنم تشنيعا عليهم فيما تسببوا لأنفسهم فيه. والمعنى : فبئس القرار ما قدّمتموه لنا ، أي العذاب. والقرار : المكث.
(قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ (٦١))
(قالُوا) أي الفوج المقتحم وهو فوج الأتباع ، فهذا من كلام الذين قالوا (بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ) [ص : ٦٠] لأن قولهم : (مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا) يعين هذا المحمل. ولذلك حق أن يتساءل الناظر عن وجه إعادة فعل (قالُوا) وعن وجه عدم عطفه على قولهم الأول.
فأما إعادة فعل القول فلإفادة أن القائلين هم الأتباع فأعيد فعل القول تأكيدا للفعل الأول لقصد تأكيد فاعل القول تبعا لأنه محتمل لضمير القائلين.
والمقصود من حكاية قولهم : (هذا) تحذير كبراء المشركين من عواقب رئاستهم وزعامتهم التي يجرون بها الويلات على أتباعهم فيوقعونهم في هاوية السوء حتى لا يجد الأتباع لهم جزاء بعد الفوت إلا طلب مضاعفة العذاب لهم. وأما تجريد فعل (قالُوا) عن العاطف فلأنه قصد به التوكيد اللفظي والتوكيد اللفظي يكون على مثال الموكّد.