ووقع في هذه السورة (وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) ، ومعناه أنه كان كافرا ساعتئذ ، أي ساعة إبائه من السجود ولم يكن قبل كافرا ، ففعل (كانَ) الذي وقع في هذا الكلام حكاية لكفره الواقع في ذلك الوقت. قال الزجّاج : «(كان) جار على باب سائر الأفعال الماضية إلّا أن فيه إخبارا عن الحالة فيما مضى ، إذا قلت : كان زيد عالما ، فقد أنبأت عن أن حالته فيما مضى من الدهر هذا ، وإذا قلت : سيكون عالما فقد أنبأت عن أن حالة ستقع فيما يستقبل ، فهما عبارتان عن الأفعال والأحوال» اه.
وقد بدت من إبليس نزعة كانت كامنة في جبلته وهي نزعة الكبر والعصيان ، ولم تكن تظهر منه قبل ذلك لأن الملأ الذي كان معهم كانوا على أكمل حسن الخلطة فلم يكن منهم مثير لما سكن في نفسه من طبع الكبر والعصيان. فلما طرأ على ذلك الملأ مخلوق جديد وأمر أهل الملأ الأعلى بتعظيمه كان ذلك موريا زناد الكبر في نفس إبليس فنشأ عنه الكفر بالله وعصيان أمره.
وهذا ناموس خلقي جعله الله مبدأ لهذا العالم قبل تعميره ، وهو أن تكون الحوادث والمضائق معيار الأخلاق والفضيلة ، فلا يحكم على نفس بتزكية أو ضدها إلا بعد تجربتها وملاحظة تصرفاتها عند حلول الحوادث بها. وقد مدح رجل عند عمر بن الخطاب بالخير ، فقال عمر : هل أريتموه الأبيض والأصفر؟ يعني الدراهم والدنانير. وقال الشاعر :
لا تمد حنّ امرأ حتّى تجرّبه |
|
ولا تذمّنّه من قبل تجريب. |
إن الرجال صناديق مقفّلة |
|
وما مفاتيحها غير التجاريب |
ووجه كونه من الكافرين أنه امتنع من طاعة الله امتناع طعن في حكمة الله وعلمه ، وذلك كفر لا محالة ، وليس كامتناع أحد من أداء الفرائض إن لم يجحد أنها حقّ خلافا للخوارج وكذلك المعتزلة.
[٧٥ ـ ٧٦] (قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ (٧٥) قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (٧٦))
أي خاطب الله إبليس ولا شك أن هذا الخطاب حينئذ كان بواسطة ملك من الملائكة لأن إبليس لما استكبر قد انسلخ عن صفة الملكية فلم يعد بعد أهلا لتلقي الخطاب من الله ولم يكن أرفع رتبة من الرسل الذين قال الله فيهم (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ) [الشورى :