وتقدم المفعول في (وَالْحَقَّ أَقُولُ) للاختصاص ، أي ولا أقول إلا الحق.
و (من) في قوله : (مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ) بيانية وهي التي تدخل على التمييز وينتصب التمييز بتقدير معناها. وتدخل على تمييز (كم) في نحو (كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ) [ص : ٣] ، وهي هنا بيان لما دل عليه (لَأَمْلَأَنَ) من مقدار مبهم فبيّن بآية (مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ) ولما كان شأن مدخول «من» البيانية أن يكون نكرة تعين اعتبار كاف الخطاب في معنى اسم الجنس ، أي من جنسك الشياطين إذ لا تكون ذات إبليس ملأ لجهنم. وإذ قد عطف عليه (وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ) أي من تبعك من الذين أغويتهم من بني آدم ، فلا جائز أن يبقى من عدا هذين من الشياطين والجنة غير ملء لجهنم.
و (أَجْمَعِينَ) توكيد لضمير (مِنْكَ) و «لمن» في قوله : (وَمِمَّنْ تَبِعَكَ).
واعلم أن حكاية هذه المقاولة بين كلام الله وبين الشيطان حكاية لما جرى في خلد الشيطان من المدارك المترتبة المتولدة في قرارة نفسه ، وما جرى في إرادة الله من المسببات المترتبة على أسبابها من خواطر الشيطان لأن العالم الذي جرت فيه هذه الأسباب ومسبباتها عالم حقيقة لا يجري فيه إلا الصدق ولا مطمع فيه لترويج المواربة ولا الحيلة ولذلك لا تعد خواطر الشيطان المذكورة فيه جرأة على جلال الله تعالى ولا تعدّ مجازاة الله تعالى الشيطان عليه تنازلا من الله لمحاورة عبد بغيض لله تعالى.
وقد ذكرنا في تفسير سورة الحجر ما دلت عليه الأقوال التي جرت من الشيطان بين يدي الله تعالى والأقوال التي ألقاها الله عليه.
[٨٦ ـ ٨٨] (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (٨٦) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٨٧) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (٨٨))
لمّا أمر الله رسوله بإبلاغ المواعظ والعبر التي تضمنتها هذه السورة أمره عند انتهائها أن يقرع أسماعهم بهذا الكلام الذي هو كالفذلكة للسورة تنهية لها تسجيلا عليهم أنه ما جاءهم إلا بما ينفعهم وليس طالبا من ذلك جزاء ، أي لو سألهم عليه أجرا لراج اتّهامهم إياه بالكذب لنفع نفسه ، فلما انتفى ذلك وجب أن ينتفي توهم اتهامه بالكذب لأن وازع العقل يصرف صاحبه على أن يكذب لغير نفع يرجوه لنفسه.
والمعنى عموم نفي سؤاله الأجر منهم من يوم بعث إلى وقت نزول هذه الآية وهو