تعالى : (قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ) [هود : ٤٠]. فالاقتصار على أهله هنا لقلة من آمن به من غيرهم ، أو أريد بالأهل أهل دينه كقوله تعالى : (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ) [آل عمران : ٦٨].
وأشعر قوله : (وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ) أن استجابة دعاء نوح كانت بأن أهلك قومه.
و (الْكَرْبِ) : الحزن الشديد والغمّ. ووصفه ب (الْعَظِيمِ) لإفادة أنه عظيم في نوعه فهو غمّ على غم. والمعنيّ به الطوفان ، وهو كرب عظيم على الذين وقعوا فيه ، فإنجاء نوح منه هو سلامته من الوقوع فيه كما علمت لأنه هول في المنظر ، وخوف في العاقبة والواقع فيه موقن بالهلاك. ولا يزال الخوف يزداد به حتى يغمره الماء ثم لا يزال في آلام من ضيق النفس ورعدة القرّ والخوف وتحقق الهلاك حتى يغرق في الماء.
وإنجاء الله إياه نعمة عليه ، وإنجاء أهله نعمة أخرى ، وإهلاك ظالميه نعمة كبرى ، وجعل عمران الأرض بذريته نعمة دائمة لأنهم يدعون له ويذكر بينهم مصالح أعماله وذلك مما يرحمهالله لأجله ، وستأتي نعم أخرى تبلغ اثنتي عشرة.
وضمير الفصل في قوله : (هُمُ الْباقِينَ) للحصر ، أي لم يبق أحد من الناس إلا من نجّاه الله مع نوح في السفينة من ذريته ، ثم من تناسل منهم فلم يبق من أبناء آدم غير ذرية نوح فجميع الأمم من ذرية أولاد نوح الثلاثة.
وظاهر هذا أن من آمن مع نوح من غير أبنائه لم يكن لهم نسل. قال ابن عباس : لما خرج نوح من السفينة مات من معه من الرجال والنساء إلا ولده ونساءه. وبذلك يندفع التعارض بين هذه الآية وبين قوله في سورة هود (قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ) [هود : ٤٠] ، وهذا جار على أن الطوفان قد عمّ الأرض كلها واستأصل جميع البشر إلا من حملهم نوح في السفينة وقد تقدم خبره في سورة هود.
وعموم الطوفان هو مقتضى ظواهر الكتاب والسنة ، ومن قالوا إن الطوفان لم يعمّ الأرض فإنما أقدموا على إنكاره من جهة قصر المدة التي حددت بها كتب الإسرائيليين ، وليس يلزم الاطمئنان لها في ضبط عمر الأرض وأحداثها وذلك ليس من القواطع ، ويكون القصر إضافيا أي لم يبق من قومه الذين أرسل إليهم. وقد يقال : نسلّم أن الطوفان لم يعمّ الأرض ولكنه عم البشر لأنهم كانوا منحصرين في البلاد التي أصابها الطوفان ولئن كانت