فإن قلت : فعلام جنحت إليه واستدللت عليه من اختيارك أن يكون لابتلاء بذبح إسماعيل دون إسحاق ، فكيف تتأول ما وقع في «سفر التكوين»؟
قلت : أرى أن ما في «سفر التكوين» نقل مشتّتا غير مرتبة فيه أزمان الحوادث بضبط يعين الزمن بين الذبح وبين أخبار إبراهيم ، فلما نقل النقلة التوراة بعد ذهاب أصلها عقب أسر بني إسرائيل في بلاد أشور زمن بختنصر ، سجلت قضية الذبيح في جملة أحوال إبراهيم عليهالسلام وأدمج فيها ما اعتقده بنو إسرائيل في غربتهم من ظنهم الذبيح إسحاق. ويدل لذلك قول الإصحاح الثاني والعشرين «وحدث بعد هذه الأمور أن الله امتحن إبراهيم فقال خذ ابنك وحيدك» إلخ ؛ فهل المراد من قولها : بعد هذه الأمور ، بعد جميع الأمور المتقدمة أو بعد بعض ما تقدم.
[١٠٨ ـ ١١١] (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٠٨) سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (١٠٩) كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١١٠) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١١١))
القول في (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ) نظير الكلام المتقدم في ذكر نوح عليهالسلام في هذه السورة وإعادته هنا تأكيد لما سبق لزيادة التنويه بإبراهيم عليهالسلام.
ويرد أن يقال : لما ذا لم تؤكد جملة (كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) ب (إنّ) هنا وأكدت مع ذكر نوح وفيما تقدم من ذكر إبراهيم. وأشار في «الكشاف» أنه لما تقدم في هذه القصة قوله : (إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) [الصافات : ٨٠] وكان إبراهيم هو المجزيّ اكتفي بتأكيد نظيره عن تأكيده ، أي لأنه بالتأكيد الأول حصل الاهتمام فلم يبق داع لإعادته.
واقتصر على تأكيد معنى الجملة تأكيدا لفظيا لأنه تقرير للعناية بجزائه على إحسانه. ولم يذكر هنا (فِي الْعالَمِينَ) [الصافات : ٧٩] لأن إبراهيم لا يعرفه جميع الأمم من البشر بخلاف نوح عليهالسلام كما تقدم في قصته.
[١١٢ ـ ١١٣] (وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٢) وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (١١٣))
هذه بشارة أخرى لإبراهيم ومكرمة له ، وهي غير البشارة بالغلام الحليم ، فإسحاق غير الغلام الحليم. وهذه البشارة هي التي ذكرت في القرآن في قوله تعالى : (فَبَشَّرْناها