عقب قوله : (فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ* ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ) [الصافات : ١٦١ ، ١٦٢] ، أي ما أنتم بفاتنين لنا فلا يلتبس علينا فضل الملائكة فنرفعه إلى مقام البنوّة لله تعالى ولا نشبّه اعتقادكم في تصرف الجن أن تبلغوا بهم مقام المصاهرة لله تعالى والمداناة لجلاله كقوله : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ) [الأنعام : ١٠٠].
فقوله : (وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ* وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ) أي وإنا معشر المسلمين ، الصافون أي الواقفون لعبادة الله صفوفا بالصلاة. ووصف وقوفهم في الصلاة بالصف تشبها بنظام الملائكة. قال النبي صلىاللهعليهوسلم في حديث مسلم : «جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة» ، والمراد بالمسبحين المنزّهون لله تعالى عن أن يتخذ ولدا أو يكون خلق صهرا له أو صاحبة خلافا لشرككم إذ عبادتكم مكاء وتصدية وخلافا لكفركم إذ تجعلون له صواحب وبنات وأصهارا. وحذف متعلق (الصَّافُّونَ) ... (الْمُسَبِّحُونَ) لدلالة قوله (ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ) [الصافات : ١٦٢] عليه ، أي الصافّون لعبادته المسبّحون له ، فإن الكلام في هذه الآيات كلها متعلق بشئون الله تعالى. وتعريف جزأي الجملة ، وضمير الفصل من قوله : (لَنَحْنُ) يفيدان قصرا مؤكدا فهو قصر قلب ، أي دون ما وصفتموه به من البنوّة لله.
[١٦٧ ـ ١٧٠] (وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ (١٦٧) لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٦٨) لَكُنَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٩) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (١٧٠))
انتقال من ذكر كفر المشركين بتعدد الإله وبإنكار البعث وما وصفوا به الرسولصلىاللهعليهوسلم من السحر والجنون ثم بما نسبوا لله مما لا يليق بإلهيته وما تخلل ذلك من المواعظ والوعيد لهم والوعد للمؤمنين والعبرة بمصارع المكذبين السابقين وما لقيه رسل الله من أقوامهم.
فانتقال الكلام إلى ذكر ما كفر به المشركون من تكذيب القرآن الذي أنزله الله هدى لهم ، فالمقصود من هذا هو قوله : (فَكَفَرُوا بِهِ) أي الذكر ، وإنما قدم له في نظم الكلام ما فيه تسجيل عليهم تهافتهم في القول إذ كانوا قبل أن يأتيهم محمد صلىاللهعليهوسلم بالكتاب المبين يودّون أن يشرفهم الله بكتاب لهم كما شرف الأولين ويرجون لو كان ذلك أن يكونوا عبادا لله مخلصين له فلما جاءهم ما رغبوا فيه كفروا به وذلك أفظع الكفر لأنه كفر بما كانوا على بصيرة من أمره إذ كانوا يتمنّونه لأنفسهم ويغبطون الأمم التي أنزل عليهم مثله فلم يكن كفرهم عن مباغتة ولا عن قلة تمكن من النظر.