(فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٤٩))
الفاء لتفريع هذا الكلام على قوله : (وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) [الزمر : ٤٥] الآية وما بينهما اعتراض مسلسل بعضه مع بعض للمناسبات.
وتفريع ما بعد الفاء على ما ذكرناه تفريع وصف بعض من غرائب أحوالهم على بعض ، وهل أغرب من فزعهم إلى الله وحده بالدعاء إذا مسهم الضر وقد كانوا يشمئزّون من ذكر اسمه وحده فهذا تناقض من أفعالهم وتعكيس ، فإنه تسبب حديث على حديث وليس تسببا على الوجود. وهذه النكتة هي الفارقة بين العطف بالفاء هنا وعطف نظيرها بالواو في قوله أول السورة (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ) [الزمر : ٨]. والمقصود بالتفريع هو قوله : (فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا) ، وأما ما بعده فتتميم واستطراد.
وقد تقدم القول في نظير صدر هذه الآية في قوله : (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ) [الزمر : ٨] الآية. وأن المراد بالإنسان كل مشرك فالتعريف تعريف الجنس ، والمراد جماعة من الناس وهم أهل الشرك فهو للاستغراق العرفي. والمخالفة بين الآيتين تفنن ولئلا تخلو إعادة الآية من فائدة زائدة كما هو عادة القرآن في القصص المكررة.
وقوله : (إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ إِنَّما) فيه هي الكلمة المركبة من (إنّ) الكافة التي تصير كلمة تدل على الحصر بمنزلة (ما) النافية التي بعدها (إلّا) الاستثنائية. والمعنى : ما أوتيت الذي أوتيته من نعمة إلا لعلم منيّ بطرق اكتسابه. وتركيز ضمير الغائب في قوله : (أُوتِيتُهُ) عائد إلى (نِعْمَةً) على تأويل حكاية مقالتهم بأنها صادرة منهم في حال حضور ما بين أيديهم من أنواع النعم فهو من عود الضمير إلى ذات مشاهدة ، فالضمير بمنزلة اسم الإشارة كقوله تعالى : (بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ) [الأحقاف : ٢٤].
ومعنى (قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ) اعتقد ذلك فجرى في أقواله إذ القول على وفق الاعتقاد. و (عَلى) للتعليل ، أي لأجل علم ، أي بسبب علم. وخولف بين هذه الآية وبين آية سورة القصص [٧٨] في قوله : (عَلى عِلْمٍ عِنْدِي) فلم يذكر هنا (عِنْدِي) لأن المراد بالعلم هنا مجرد الفطنة والتدبير ، وأريد هنالك علم صوغ الذهب والفضة والكيمياء