الْمُتَّقِينَ) مثله في (لَمِنَ السَّاخِرِينَ).
وأما قولها : (حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً) فهو تمنّ محض. و (لَوْ) فيه للتمني ، وانتصب (فَأَكُونَ) على جواب التمنّي.
والكرة : الرّجعة. وتقدم في قوله : (فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) في سورة الشعراء [١٠٢] ، أي كرة إلى الدنيا فأحسن ، وهذا اعتراف بأنها علمت أنها كانت من المسيئين. وقد حكي كلام النفس في ذلك الموقف على ترتيبه الطبيعي في جولانه في الخاطر بالابتداء بالتحسر على ما أوقعت فيه نفسها ، ثم بالاعتذار والتنصل طمعا أن ينجيها ذلك ، ثم بتمنّي أن تعود إلى الدنيا لتعمل الإحسان كقوله تعالى : (قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ) [المؤمنون : ٩٩ ، ١٠٠]. فهذا الترتيب في النظم هو أحكم ترتيب ولو رتب الكلام على خلافه لفاتت الإشارة إلى تولد هذه المعاني في الخاطر حينما يأتيهم العذاب ، وهذا هو الأصل في الإنشاء ما لم يوجد ما يقتضي العدول عنه كما بينته في كتاب «أصول الإنشاء والخطابة».
(بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (٥٩))
(بَلى) حرف لإبطال منفي أو فيه رائحة النفي ، لقصد إثبات ما نفي قبله ، فتعين أن تكون هنا جوابا لقول النفس (لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) [الزمر : ٥٧] ، لما تقتضيه (لَوْ) التي استعملت للتمنّي من انتفاء ما تمناه وهو أن يكون الله هداه ليكون من المتقين ، أي لم يهدني الله فلم أتق. وجملة (قَدْ جاءَتْكَ آياتِي) تفصيل للإبطال وبيان له ، وهو مثل الجواب بالتسليم بعد المنع ، أي هداك الله.
وقد قوبل كلام النفس بجواب يقابله على عدد قرائنه الثلاث (١) ، وذلك بقوله : (قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها) وهذا مقابل (لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي) [الزمر : ٥٧] ثم بقوله : (وَاسْتَكْبَرْتَ) وهو مقابل قولها : (عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ) [الزمر : ٥٦] أي ليست نهاية أمرك التفريط بل أعظم منه وهو الاستكبار ، ثم بقوله : (وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ) وهذا مقابل قول النفس (لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) [الزمر : ٥٧] فهذه قرائن ثلاث. والمعنى : أن الله هداك في الدنيا بالإرشاد بآيات القرآن فقابلت الإرشاد بالتكذيب والاستكبار والكفر بها فلا عذر لك.
__________________
(١) القرائن القرآنية : جمع قرينة وهي الفقرة ذات الفاصلة.