أو أن معناه نحن نعلم أنهم يجادلون في آياتنا إصرارا على الكفر فلا يوهمك تقلبهم في البلاد أنا لا نؤاخذهم بذلك.
والغرور : ظن أحد شيئا حسنا وهو بضده يقال : غرّك ، إذا جعلك تظن السيّئ حسنا. ويكون التغرير بالقول أو بتحسين صورة القبيح.
والتقلب : اختلاف الأحوال ، وهو كناية عن تناول محبوب ومرغوب. و (الْبِلادِ) الأرض ، وأريد بها هنا الدنيا كناية عن الحياة.
والمخاطب بالنهي في قوله : (فَلا يَغْرُرْكَ) يجوز أن يكون غير معين فيعم كل من شأنه أن يغره تقلب الذين كفروا في البلاد ، وعلى هذا يكون النهي جاريا على حقيقة بابه ، أي موجها إلى من يتوقع منه الغرور ، ومثله كثير في كلامهم ، قال كعب بن زهير :
فلا يغرّنك ما منّت وما وعدت |
|
إنّ الأمانيّ والأحلام تضليل |
ويجوز أن يكون الخطاب موجها للنبي صلىاللهعليهوسلم على أن تكون صيغة النهي تمثيلية بتمثيل حال النبي صلىاللهعليهوسلم في استبطائه عقاب الكافرين بحال من غرّه تقلبهم في البلاد سالمين ، كقوله تعالى : (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) [الحجر : ٣].
والمعنى : لا يوهمنك تناولهم مختلف النعماء واللذات في حياتهم أننا غير مؤاخذيهم على جدالهم في آياتنا ، أو لا يوهمنك ذلك أننا لا نعلم ما هم عليه فلم نؤاخذهم به تنزيلا للعالم منزلة الجاهل في شدة حزن الرسول صلىاللهعليهوسلم على دوام كفرهم ومعاودة أذاهم كقوله : (وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ) [إبراهيم : ٤٢] ، وفي معنى هذه قوله تعالى : (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ) وتقدمت في آل عمران [١٩٦ ، ١٩٧].
(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (٥))
جملة (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ) وما بعدها بيان لجملة (فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ) [غافر : ٤] باعتبار التفريع الواقع عقب هاته الجمل من قوله : (فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ) ، فالمعنى : سبقتهم أمم بتكذيب الرسل كما كذبوك وجادلوا بالباطل رسلهم كما جادلك هؤلاء فأخذتهم فكيف رأيت عقابي إياهم كذلك مثل هؤلاء في إمهالهم إلى أن آخذهم.