هذا استئناف ابتدائي إقبال على خطاب الرسول صلىاللهعليهوسلم والمؤمنين بعد أن انقضى وصف ما يلاقي المشركون من العذاب ، وما يدعون من دعاء لا يستجاب ، وقرينة ذلك قوله : (وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) [غافر : ١٤].
ومناسبة الانتقال هي وصفا (الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ) [غافر : ١٢] لأن جملة (يُرِيكُمْ آياتِهِ) تناسب وصف العلوّ ، وجملة (يُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً) تناسب وصف (الْكَبِيرِ) بمعنى الغنيّ المطلق.
والآيات : دلائل وجوده ووحدانيته. وهي المظاهر العظيمة التي تبدو للناس في هذا العالم كقوله : (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً) [الرعد : ١٢] وقوله : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ) [آل عمران : ١٩٠]. وتنزيل الرزق من السماء هو نزول المطر لأن المطر سبب الرزق وهو في نفسه آية أدمج معها امتنان ، ولذلك عقب الأمران بقوله : (وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ).
وصيغة المضارع في (يُرِيكُمْ) و (يُنَزِّلُ) تدل على أن المراد إراءة متجددة وتنزيل متجدد وإنما يكون ذلك في الدنيا ، فتعين أن الخطاب مستأنف مراد به المؤمنون وليس من بقية خطاب المشركين في جهنم ، ويزيد ذلك تأييدا قوله : (فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) [غافر : ١٤].
وعدي فعلا (يرى) و (يُنَزِّلُ) إلى ضمير المخاطبين وهم المؤمنون لأنهم الذين انتفعوا بالآيات فآمنوا وانتفعوا بالرزق فشكروا بالعمل بالطاعات فجعل غيرهم بمنزلة غير المقصودين بالآيات لأنهم لم ينتفعوا بها كما قال تعالى : (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) [العنكبوت : ٤٣] فجعل غير العالمين كمن لا يعقل ولا يفقه.
ولذلك ذيلت إراءة الآيات وإنزال الرزق لهم بقوله : (وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ) أي من آمن ونبذ الشرك لأن الشرك يصدّ أهله عن الإنصاف وإعمال النظر في الأدلة.
والإنابة : التوبة ، وفي صيغة المضارع إشارة إلى أن الإنابة المحصلة للمطلوب هي الإنابة المتجددة المتكررة ، وإذ قد كان المخاطبون منيبين إلى الله كان قوله : (وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ) دالا بدلالة الاقتضاء على أنهم رأوا الآيات واطمأنوا بها وأنهم عرفوا قدر النعمة وشكروها فكان بين الإنابة وبين التذكر تلازم عادي ، ولذلك فجملة (وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ) تذييل.