وتقديم (لَكُمْ) على مفعول (يُنَزِّلُ) وهو (رِزْقاً) لكمال الامتنان بأن جعل تنزيل الرزق لأجل الناس ولو أخر المجرور لصار صفة ل (رِزْقاً) فلا يفيد أن التنزيل لأجل المخاطبين بل يفيد أن الرزق صالح للمخاطبين وبين المعنيين بون بعيد ، فكان تقديم المجرور في الترتيب على مفعول الفعل على خلاف مقتضى الظاهر لأن حق المفعول أن يتقدم على غيره من متعلّقات الفعل وإنما خولف الظاهر لهذه النكتة.
وجعل تنزيل الرزق لأجل المخاطبين وهم المؤمنون إشارة إلى أن الله أراد كرامتهم ابتداء وأن انتفاع غيرهم بالرزق انتفاع بالتبع لهم لأنهم الذين بمحل الرضى من الله تعالى.
وتثار من هذه الآية مسألة الاختلاف بين الأشعرية مع الماتريدي ومع المعتزلة في أن الكافر منعم عليه أو لا؟ فعن الأشعري أن الكافر غير منعم عليه في الدنيا ولا في الدين ولا في الآخرة ، وقال القاضي أبو بكر الباقلاني والماتريدي : هو منعم عليه نعمة دنيوية ، لا دينية ولا أخروية ، وقالت المعتزلة : هم منعم عليه نعمة دنيوية ودينية لا أخروية ، فأما الأشعري فلم يعتبر بظاهر الملاذ التي تحصل للكافر في الحياة فإنما ذلك إملاء واستدراج لأن مآلها العذاب المؤلم فلا تستحق اسم النعمة.
وأنا أقول : لو استدل له بأنها حاصلة لهم تبعا فهي لذائذ وليست نعما لأن النعمة لذة أريد منها نفع من وصلت إليه كما أشرت إليه آنفا.
وأما الباقلاني فراعى ظاهر الملاذّ فلم يمنع أن تكون نعما وإن كانت عواقبها آلاما ، وآيات القرآن شاهدة لقوله. وأما المعتزلة فزادوا فزعموا أن الكافر منعم عليه دينا ، وأرادوا بذلك أن الله مكّن الكافر من نعمة القدرة على النظر المؤدي إلى معرفة الله وواجب صفاته. والذي استقر عليه رأي المحققين من المتكلمين أن هذا الخلاف لفظي لأنه غير ناظر إلى حقيقة حالة الكافر في الدنيا والدين ، وإنما نظر كل شق من أهل الخلاف إلى ما حفّ بأحوال الكافر في تلك النعمة فرجع إلى الخلاف في الألفاظ المصطلح عليها ومدلولاتها لا في حقائق المقصود منها.
(فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (١٤))
تفريع على ما شاهدوا من الآيات وما أفيض عليهم من الرزق ، وعلى أنهم المرجون للتذكر ، أي إذ كنتم بهذه الدرجة فادعوا الله مخلصين ، ففي الفاء معنى الفصيحة كما تقدم في قوله : (وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ) [غافر : ١٣].