التعليل لوقوع الجزاء في ذلك اليوم ولانتفاء الظلم عن ذلك الجزاء. وتأخيرها عن تينك الجملتين مشير إلى أنها علة لهما ، فحرف التوكيد واقع موقع فاء السببية كما هو شأن (إِنَ) إذا جاءت في غير مقام رد الإنكار ، فسرعة الحساب تقتضي سرعة الحكم. وسرعة الحكم تقتضي تملؤ الحاكم من العلم بالحق ، ومن تقدير جزاء كل عامل على عمله دون تردد ولا بحث لأن الحاكم علام الغيوب ، فكان قوله : (سَرِيعُ الْحِسابِ) علة لجميع ما تقدمه في هذا الغرض. والمعنى : أن الله محاسبهم حسابا سريعا لأنه سريع الحساب.
والحساب مصدر حاسب غيره إذا حسب له ما هو مطلوب بإعداده ، وفائدة ذلك تختلف فتارة يكون الحساب لقصد استحضار أشياء كيلا يضيع منها شيء ، وتارة يكون لقصد توقيف من يتعين توقيفه عليها ، وتارة يكون لقصد مجازاة كل شيء منها بعدله ، وهذا الأخير هو المراد هنا ولأجله سمّي يوم الجزاء يوم الحساب ، وهو المراد في قوله تعالى : (إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي) [الشعراء : ١١٣]. والباء في قوله : (بِما كَسَبَتْ) للسببية ، أي تجزى بسبب ما كسبت ، أي جزاء مناسبا لما كسبت ، أي عملت.
وفي الآية إيماء إلى أن تأخير القضاء بالحق بعد تبينه للقاضي بدون عذر ضرب من ضروب الجور لأن الحق إن كان حق العباد فتأخير الحكم لصاحب الحق إبقاء لحقه بيد غيره ، ففيه تعطيل انتفاعه بحقه برهة من الزمان وذلك ظلم ، ولعل صاحب الحق في حاجة إلى تعجيل حقه لنفع معطّل أو لدفع ضر جاثم ، ولعله أن يهلك في مدة تأخير حقه فلا ينتفع به ، أو لعل الشيء المحكوم به يتلف بعارض أو قصد فلا يصل إليه صاحبه بعد. وإن كان الحق حقّ الله كان تأخير القضاء فيه إقرارا للمنكر. في «صحيح البخاري» «أن رسول اللهصلىاللهعليهوسلم استعمل أبا موسى على اليمن ثم أتبعه معاذ بن جبل فلمّا قدم معاذ على أبي موسى ألقى إليه أبو موسى وسادة وقال له : أنزل ، وإذا رجل موثق عند أبي موسى ، قال معاذ : ما هذا؟ قال : كان يهوديا فأسلم ثم تهوّد. قال معاذ : لا أجلس حتى يقتل ، قضاء الله ورسوله ، ثلاث مرات ، فأمر به أبو موسى فقتل».
(وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ (١٨))
الأظهر أن يكون قوله : (وَأَنْذِرْهُمْ) وما بعده معترضا بين جملة (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) [غافر : ١٧] وجملة (يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ) [غافر : ١٩] على الوجهين الآتيين في موقع جملة (يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ) ، فالواو اعتراضية ، والمناسبة أن ذكر الحساب به يقتضي