والمسرف : متجاوز المعروف في شيء ، فالمراد هنا مسرف في الكذب لأن أعظم الكذب أن يكون على الله ، قال تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ) [الأنعام : ٩٣].
وإذا كان المراد الإسراف في الكذب تعين أن قوله : (كَذَّابٌ) عطف بيان وليس خبرا ثانيا إذ ليس ثمة إسراف هنا غير إسراف الكذب ، وفي هذا اعتراف من هذا المؤمن بالله الذي أنكره فرعون ، رماه بين ظهرانيهم. ويجوز أن تكون جملة (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي) إلى آخرها جملة معترضة بين كلامي مؤمن آل فرعون ليست من حكاية كلامه وإنما هي قول من جانب الله في قرآنه يقصد منها تزكية هذا الرجل المؤمن إذ هداه الله للحق ، وأنه تقيّ صادق ، فيكون نفي الهداية عن المسرف الكذاب كناية عن تقوى هذا الرجل وصدقه لأنه نطق عن هدى والله لا يعطي الهدى من هو مسرف كذاب.
(يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللهِ إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلاَّ ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشادِ (٢٩))
(يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللهِ إِنْ جاءَنا).
لما توسم نهوض حجته بينهم وأنها داخلت نفوسهم ، أمن بأسهم ، وانتهز فرصة انكسار قلوبهم ، فصارحهم بمقصوده من الإيمان بموسى على سنن الخطباء وأهل الجدل بعد تقرير المقدمات والحجج أن يهجموا على الغرض المقصود ، فوعظهم بهذه الموعظة.
وأدخل قومه في الخطاب فناداهم ليستهويهم إلى تعضيده أمام فرعون فلا يجد فرعون بدّا من الانصياع إلى اتفاقهم وتظاهرهم ، وأيضا فإن تشريك قومه في الموعظة أدخل في باب النصيحة فابتدأ بنصح فرعون لأنه الذي بيده الأمر والنهي ، وثنّى بنصيحة الحاضرين من قومه تحذيرا لهم من مصائب تصيبهم من جراء امتثالهم أمر فرعون بقتل موسى فإن ذلك يهمهم كما يهمّ فرعون. وهذا الترتيب في إسداء النصيحة نظير الترتيب في قول النبيصلىاللهعليهوسلم : «ولأئمّة المسلمين وعامتهم» (١). ولا يخفى ما في ندائهم بعنوان أنهم قومه من الاستصغاء لنصحه وترقيق قلوبهم لقوله.
وابتداء الموعظة بقوله : (لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ) تذكير بنعمة الله عليهم ، وتمهيد لتخويفهم من غضب الله ، يعني : لا تغرنكم عظمتكم وملككم فإنهما
__________________
(١) بعض حديث أوله : الدين النصيحة قالوا لمن يا رسول الله قال لله ولرسوله إلخ.