انتقال إلى الاستدلال بخلق الناس وهو الخلق العجيب. وأدمج فيه الاستدلال بخلق أصلهم وهو نفس واحدة تشعب منها عدد عظيم وبخلق زوج آدم ليتقوّم ناموس التناسل. والجملة يجوز أن تكون في موضع الحال من ضمير الجلالة ، ويجوز أن تكون استئنافا ابتدائيا تكريرا للاستدلال.
والخطاب للمشركين بدليل قوله بعده : (فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) ، وهو التفات من الغيبة إلى الخطاب ، ونكتته أنه لما أخبر رسوله صلىاللهعليهوسلم عنهم بطريق الغيبة أقبل على خطابهم ليجمع في توجيه الاستدلال إليهم بين طريقي التعريض والتصريح. وتقدم نظير هذه الجملة في سورة الأعراف ، إلّا أن في هذه الجملة عطف قوله : (جَعَلَ مِنْها زَوْجَها) بحرف (ثُمَ) الدال على التراخي الرتبي لأن مساقها الاستدلال على الوحدانية وإبطال الشريك بمراتبه ، فكان خلق آدم دليلا على عظيم قدرته تعالى وخلق زوجه من نفسه دليلا آخر مستقل الدلالة على عظيم قدرته. فعطف بحرف (ثُمَ) الدال في عطف الجمل على التراخي الرتبي إشارة إلى استقلال الجملة المعطوفة بها بالدلالة مثل الجملة المعطوفة هي عليها ، فكان خلق زوج آدم منه أدلّ على عظيم القدرة من خلق الناس من تلك النفس الواحدة ومن زوجها لأنه خلق لم تجر به عادة فكان ذلك الخلق أجلب لعجب السامع من خلق الناس فجيء له بحرف التراخي المستعمل في تراخي المنزلة لا في تراخي الزمن لأن زمن خلق زوج آدم سابق على خلق الناس. فأما آية الأعراف فمساقها مساق الامتنان على الناس بنعمة الإيجاد ، فذكر الأصلان للناس معطوفا أحدهما على الآخر بحرف التشريك في الحكم الذي هو الكون أصلا لخلق الناس.
وقد تضمنت الآية ثلاث دلائل على عظم القدرة خلق الناس من ذكر وأنثى بالأصالة وخلق الذكر الأول بالإدماج وخلق الأنثى بالأصالة أيضا.
(وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ).
استدلال بما خلقه الله تعالى من الأنعام عطف على الاستدلال بخلق الإنسان لأن المخاطبين بالقرآن يومئذ قوام حياتهم بالأنعام ولا تخلو الأمم يومئذ من الحاجة إلى الأنعام ولم تزل الحاجة إلى الأنعام حافّة بالبشر في قوام حياتهم. وهذا اعتراض بين جملة (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) وبين (يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ) لمناسبة أزواج الأنعام لزوج النفس الواحدة.
وأدمج في هذا الاستدلال امتنان بما فيها من المنافع للناس لما دل عليه قوله :