خواطر تشعره بأنه أعظم من غيره فلا يرضى بمساواته بله متابعته ، وتقدم في تفسير قوله تعالى : (إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ) في سورة البقرة [٣٤].
والمعنى : ما يحملهم على المجادلة في آيات الله إلا الكبر على الذي جاءهم بها وليست مجادلتهم لدليل لاح لهم. وقد أثبت لهم الكبر الباعث على المجادلة بطريق القصر لينفى أن يكون داعيهم إلى المجادلة شيء آخر غير الكبر على وجه مؤكد ، فإن القصر تأكيد على تأكيد لما يتضمنه من إثبات الشيء بوجه مخصوص مؤكّد ، ومن نفي ما عداه فتضمن جملتين.
وجملة (ما هُمْ بِبالِغِيهِ) يجوز أن تكون معترضة ، ويجوز أن تكون في موضع الصفة ل (كِبْرٌ). وحقيقة البلوغ : الوصول ، قال تعالى : (إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ) [النحل : ٧] ويطلق على نوال الشيء وتحصيله مجازا مرسلا كما في قوله تعالى: (ما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ) [سبأ : ٤٥] وهو هنا محمول على المعنى المجازي لا محالة ، أي ما هم ببالغي الكبر.
وإذ قد كان الكبر مثبتا حصوله في نفوسهم إثباتا مؤكدا بقوله : (إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ) ، تعيّن أن نفي بلوغهم الكبر منصرف إلى حالات الكبر : فإما أن يراد نفي أهليتهم للكبر إذ هم أقل من أن يكون لهم الكبر كقوله تعالى : (لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) [المنافقون : ٨] أي لا عزة حقا لهم ، فالمعنى هنا : كبر زيف ، وإما أن يراد نفي نوالهم شيئا من آثار كبرهم مثل تحقير الذين يتكبرون عليهم مثل احتقار المتكبر عليهم ومخالفتهم إياهم فيما يدعونهم إليه فضلا عن الانتظام في سلك اتباعهم ، وإذلالهم ، وإفحام حجتهم ، فالمعنى : ما هم ببالغين مرادهم الذي يأملونه منك في نفوسهم الدالة عليه أقوالهم مثل قولهم : (نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) [الطور : ٣٠] وقولهم : (لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) [فصلت : ٢٦] ونحو ذلك من أقوالهم الكاشفة لآمالهم.
فتنكير : (كِبْرٌ) للتعظيم ، أي كبر شديد بتعدد أنواعه ، وتمكنه من نفوسهم ، فالضمير البارز في (بِبالِغِيهِ) عائد إلى الكبر على وجه المجاز بعلاقة السببية أو المسببية ، والداعي إلى هذا المجاز طلب الإيجاز لأن تعليق نفي البلوغ باسم ذات الكبر يشمل جميع الأحوال التي يثيرها الكبر ، وهذا من مقاصد إسناد الأحكام إلى الذوات إن لم تقم قرينة على إرادة حالة مخصوصة ، كما في قوله تعالى : (نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ) [الزخرف : ٣٢] أي