لما نزّلهم منزلة من لا يعلم ضرب مثلا لهم وللمؤمنين ، فمثل الذين يجادلون في أمر البعث مع وضوح إمكانه مثل الأعمى ، ومثل المؤمنين الذين آمنوا به حال البصير ، وقد علم حال المؤمنين من مفهوم صفة (أَكْثَرَ النَّاسِ) لأن الأكثرين من الذين لا يعلمون يقابلهم أقلون يعلمون. والمعنى : لا يستوي الذين اهتدوا والذين هم في ضلال ، فإطلاق الأعمى والبصير استعارة للفريقين الذين تضمنهما قوله : (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) [غافر : ٥٧].
ونفي الاستواء بينهما يقتضي تفضيل أحدهما على الآخر كما قدمنا في قوله تعالى : (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) الآية في سورة النساء [٩٥] ، ومن المتبادر أن الأفضل هو صاحب الحال الأفضل وهو البصير إذ لا يختلف الناس في أن البصر أشرف من العمى في شخص واحد ، ونفي الاستواء بدون متعلّق يقتضي العموم في متعلقاته ، لكنه يخص بالمتعلّقات التي يدل عليها سياق الكلام وهي آيات الله ودلائل صفاته ، ويسمى مثل هذا العموم العموم العرفي ، وتقدم نظيرها في سورة فاطر [١٩].
وقوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا الْمُسِيءُ) زيادة بيان لفضيلة أهل الإيمان بذكر فضيلتهم في أعمالهم بعد ذكر فضلهم في إدراك أدلة إمكان البعث ونحوه من أدلة الإيمان. والمعنى : وما يستوي الذين آمنوا وعملوا الصالحات والمسيئون ، أي في أعمالهم كما يؤذن بذلك قوله : (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا الْمُسِيءُ) ، وفيه إيماء إلى اختلاف جزاء الفريقين وهذا الإيماء إدماج للتنبيه على الثواب والعقاب.
والواو في قوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا) عاطفة الجملة على الجملة بتقدير : وما يستوي الذين آمنوا.
والواو في قوله : (وَلَا الْمُسِيءُ) عاطفة (الْمُسِيءُ) على (الَّذِينَ آمَنُوا) عطف المفرد على المفرد ، فالعطف الأول عطف المجموع مثل قوله تعالى : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ) [الحديد : ٣].
وإنما قدم ذكر الأعمى على ذكر البصير مع أن البصر أشرف من العمى بالنسبة لذات واحدة ، والمشبه بالبصير أشرف من المشبه بالأعمى إذ المشبه بالبصير المؤمنون ، فقدم ذكر تشبيه الكافرين مراعاة لكون الأهمّ في المقام بيان حال الذين يجادلون في الآيات إذ هم المقصود بالموعظة.
وأما قوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا الْمُسِيءُ) فإنما رتب فيه ذكر الفريقين على عكس ترتيبه في التشبيه بالأعمى والبصير اهتماما بشرف المؤمنين.