وأعيدت (لا) النافية بعد واو العطف على النفي ، وكان العطف مغنيا عنها فإعادتها لإفادة تأكيد نفي المساواة ومقام التوبيخ يقتضي الإطناب ، ولذلك تعدّ (لا) في مثله زائدة كما في «مغني اللبيب» ، وكان الظاهر أن تقع (لا) قبل (الذين آمنوا) ، فعدل عن ذلك للتنبيه على أن المقصود عدم مساواة المسيء لمن عمل الصالحات ، وأن ذكر الذين آمنوا قبل المسيء للاهتمام بالذين آمنوا ولا مقتضي للعدول عنه بعد أن قضي حق الاهتمام بالذين سبق الكلام لأجل تمثيلهم ، فحصل في الكلام اهتمامان.
وقريب منه ما في سورة فاطر في أربع جمل : اثنتين قدّم فيهما جانب تشبيه الكافرين ، واثنتين قدّم فيهما تشبيه جانب المؤمنين ، وذلك قوله تعالى : (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ) [فاطر : ١٩ ـ ٢٢].
و (قَلِيلاً) حال من (أَكْثَرَ النَّاسِ) في قوله تعالى قبله : (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) ، و (ما) في قوله : (ما تَتَذَكَّرُونَ) مصدرية وهي في محل رفع على الفاعلية. وهذا مؤكد لمعنى قوله : (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) لأن قلة التذكر تؤول إلى عدم العلم ، والقلة هنا كناية عن العدم وهو استعمال كثير ، كقوله تعالى : (فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ) [البقرة : ٨٨] ، ويجوز أن تكون على صريح معناها ويكون المراد بالقلة عدم التمام ، أي لا يعلمون فإذا تذكروا تذكرا لا يتممونه فينقطعون في أثنائه عن التعمّق إلى استنباط الدلالة منه فهو كالعدم في عدم ترتب أثره عليه.
وقرأ الجمهور يتذكرون بياء الغيبة جريا على مقتضى ظاهر الكلام ، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي وخلف (تَتَذَكَّرُونَ) بتاء الخطاب على الالتفات ، والخطاب للذين يجادلون في آيات الله.
وكون الخطاب لجميع الأمة من مؤمنين ومشركين وأن التذكر القليل هو تذكر المؤمنين فهو قليل بالنسبة لعدم تذكر المشركين بعيد عن سياق الردّ ولا يلاقي الالتفات.
(إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (٥٩))
لما أعطي إثبات البعث ما يحق من الحجاج والاستدلال ، تهيأ المقام لاستخلاص تحقيقه كما تستخلص النتيجة من القياس ، فأعلن بتحقيق مجيء (السَّاعَةَ) وهي ساعة البعث إذ (السَّاعَةَ) في اصطلاح الإسلام علم بالغلبة على ساعة البعث ، فالساعة والبعث