فيجوز أن يكون المراد ب (الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) المخاطبين بقوله : (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ) [غافر : ٦٢] ، ويكون الموصول وصلته إظهارا في مقام الإضمار ، والمعنى : كذلك تؤفكون ، أي مثل افككم تؤفكون ، ويكون التشبيه مبالغة في أن إفكهم بلغ في كنه الإفك النهاية بحيث لو أراد المقرّب أن يقربه للسامعين بشبيه له لم يجد شبيها له أوضح منه وأجلى في ماهيته فلا يسعه إلا أن يشبهه بنفسه على الطريقة المألوفة المبينة في قوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) [البقرة : ١٤٣] ، وبذلك تكون صلة الموصول من قوله : (الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) إيماء إلى علة إفكهم تعليلا صريحا.
ويجوز أن يكون المراد ب (الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) كلّ من جحد بآيات الله من مشركي العرب ومن غيرهم من المشركين والمكذبين فيصير التعليل المومى إليه بالصلة تعليلا تعريضيا لأنه إذا كان الإفك شأن الذين يجحدون بآيات الله كلهم فقد شمل ذلك هؤلاء بحكم المماثلة. وصيغة المضارع لاستحضار الحالة ، وذكر فعل الكون للدلالة على أن الجحد بآيات الله شأنهم وهجّيراهم.
وهذا أصل عظيم في الأخلاق العلمية ، فإن العقول التي تتخلق بالإنكار والمكابرة قبل التأمل في المعلومات تصرف عن انكشاف الحقائق العلمية فتختلط عليها المعلومات ولا تميّز بين الصحيح والفاسد.
(اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٦٤))
(اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً).
استئناف ثان بناء على أحسن الوجوه التي فسرنا بها موقع قوله : (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ) [غافر : ٦١] كما تقدم فلذلك لم تعطف على التي قبلها لأن المقام مقام تعداد دلائل انفراده تعالى بالتصرف وبالإنعام عليهم حتى يفتضح خطلهم في الإشراك به وكفران نعمه ، فذكّرهم في الآية السابقة بآثار قدرته في إيجاد الأعراض القائمة بجواهر هذا العالم ، وهما عرضا الظلمة والنور ، وفي كليهما نعم عظيمة على الناس ، وذكّرهم في هذه الآية بآثار خلق الجواهر في هذا العالم على كيفيات هي نعمة لهم ، وفي خلق أنفسهم على صور صالحة بهم ، فأما إن جعلت اسم الجلالة في قوله : (اللهُ الَّذِي جَعَلَ) إلخ بدلا من (رَبُّكُمْ) في (وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي) [غافر : ٦٠] ، فإن جملة (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً) تكون مستأنفة استئنافا ابتدائيا.