و (رَبِّ الْعالَمِينَ) خالق أجناس العقلاء من الناس والملائكة والجنّ. وهذا الوصف من تمام الإنشاء لأن في ذكر ربوبيته للعالمين وهم أشرف أجناس الموجودات استحضارا لما أفاضه عليهم من خيرات الإيجاد والإمداد.
(هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦٥))
(هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ).
استئناف ثالث للارتقاء في إثبات إلهيته الحقّ بإثبات ما يناسبها وهو الحياة الكاملة ، فهذه الجملة مقدمة لجملة (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) فإثبات الحياة الواجبة لذاته فإن الذي ربّ العالمين وأوجدهم على أكمل الأحوال وأمدهم بما به قوامهم على ممر الأزمان لا جرم أنه موصوف بالحياة الحق لأن مدبّر المخلوقات على طول العصور يجب أن يكون موصوفا بالحياة ، إذ الحياة (مع ما عرض من عسر في تعريفها عند الحكماء والمتكلمين) هي صفة وجودية تصحح لمن قامت به الإدراك والإرادة والفعل ، وتقدم الكلام عليها عند قوله تعالى : (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ) في سورة البقرة [٢٨].
فإن كان اتصاف موصوفها بها مسبوقا بعدم فهي حياة ممكنة عارضة مثل حياة الملائكة وحياة الأرواح وحياة الإنسان وحياة الحيوان وحياة الأساريع ، فتكون متفاوتة في موصوفاتها بتفاوت قوتها فيها ومتفاوتة في موصوفها الواحد بتفاوت أزمانها مثل تفاوت حياة الشخص الواحد في وقت شبابه ، وحياته في وقت هرمه ومثل حياة الشخص وقت نشاطه وحياته وقت نومه ، وبذلك التفاوت تصير إلى الخفوت ثم إلى الزوال ، ويظهر أثر تفاوتها في تفاوت آثارها من الإدراك والإرادة والفعل.
وإن كان اتصاف موصوفها بها أزليّا غير مسبوق بعدم فهي حياة واجب الوجود سبحانه وهي حياة واجبة ذاتية. وهي الحياة الحقيقية لأنها غير معرّضة للنقص ولا للزوال ، فلذلك كان الحيّ حقيقة هو الله تعالى كما أنبأت عنه صيغة الحصر في قوله : (هُوَ الْحَيُ) وهو قصر ادعائي لعدم الاعتداد بحياة ما سواه من الأحياء لأنها عارضة ومعرّضة للفناء والزوال.
فموقع قوله : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) موقع النتيجة من الدليل لأن كل من سواه لا حياة له واجبة ، فهو معرض للزوال فكيف يكون إلها مدبرا للعالم. وجميع ما عبد من دون الله هو بين ما لم يتصف بالحياة تماما كالأصنام من الحجارة أو الخشب أو المعادن. ومثل