(وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [غافر : ٦٠] فيكون العدول عن أن يقول : أن أعبد الذين تعبدون ، تفننا. و (من) في قوله : (مِنْ رَبِّي) ابتدائية ، وجعل المجرور ب (من) وصف (رب) مضافا إلى ضمير المتكلم دون أن يجعل مجرورها ضميرا يعود على اسم الجلالة إظهارا في مقام الإضمار على خلاف مقتضى الظاهر لتربية المهابة في نفوس المعرّض بهم ليعلموا أن هذا النهي ومجيء البينات هو من جانب سيّده وسيدهم فما يسعهم إلا أن يطيعوه ولذلك عززه بإضافة الرب إلى الجميع في قوله : (وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) أي ربكم ورب غيركم فلا منصرف لكم عن طاعته.
والإسلام : الانقياد بالقول والعمل ، وفعله متعدّ ، وكثر حذف مفعوله فنزّل منزلة اللازم ، فأصله : أسلم نفسه أو ذاته أو وجهه كما صرح به في نحو قوله تعالى : (فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ) ، ومن استعماله كاللازم قوله تعالى : (فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ) في سورة آل عمران [٢٠] وقوله تعالى : (إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) في سورة البقرة [١٣١] ، وكذلك هو هنا.
(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦٧))
استئناف رابع بعد استئناف جملة (هُوَ الْحَيُ) [غافر : ٦٥] وما تفرع عليها ، وكلها ناشئ بعضه عن بعض. وهذا الامتنان بنعمة الإيجاد وهو نعمة لأن الموجود شرف والمعدوم لا عناية به. وأدمج فيه الاستدلال على الإبداع. وتقدم الكلام على أطوار خلق الإنسان في سورة الحج ، وتقدم الكلام على بعضه في سورة فاطر.
والطفل : اسم يصدق على الواحد والاثنين والجمع ، للمذكر والمؤنث قال تعالى : (أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ) [النور : ٣١] وقد يطابق فيقال : طفل وطفلان وأطفال.
واللامات في قوله : (ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ) وما عطف عليه ب (ثم) متعلقات بمحذوف تقديره : ثم يبقيكم ، أو ثم ينشئكم لتبلغوا أشدكم ، وهي لامات التعليل مستعملة في معنى (إلى) لأن الغاية المقدرة من الله تشبه العلة فيما يفضي إليها ، وتقدم نظيره في سورة الحج.
وقوله : (وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى) عطف على (لِتَكُونُوا شُيُوخاً) أي للشيخوخة غاية