فمعنى (يُحْيِي) يوجد المخلوق حيّا. ومعنى (يُمِيتُ) أنه يعدم الحياة عن الذي كان حيّا ، وهذا هو محل العبرة. وأما إمكان الإحياء بعد الإماتة فمدلول بدلالة قياس التمثيل العقلي وليس هو صريح الآية. والمقصود الامتنان بالحياة تبعا لقوله قبل هذا : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ) إلى قوله : (ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً) [غافر : ٦٧].
وفي قوله : (يُحْيِي وَيُمِيتُ) المحسن البديعي المسمى الطّباق. وفرع على هذا الخبر إخبار بأنه إذا أراد أمرا من أمور التكوين من إحياء أو إماتة أو غيرهما فإنه يقدر على فعله دون تردّد ولا معالجة ، بل بمجرد تعلق قدرته بالمقدور وذلك التعلق هو توجيه قدرته للإيجاد أو الإعدام. فالفاء من قوله : (فَإِذا قَضى) فاء تفريع الإخبار بما بعدها على الإخبار بما قبلها.
وقول : (كُنْ) تمثيل لتعلق القدرة بالمقدور بلا تأخير ولا عدّة ولا معاناة وعلاج بحال من يرد إذن غيره بعمل فلا يزيد على أن يوجه إليه أمرا فإن صدور القول عن القائل أسرع أعمال الإنسان وأيسر ، وقد اختير لتقريب ذلك أخصر فعل وهو (كُنْ) المركب من حرفين متحرك وساكن.
[٦٩ ـ ٧٢] (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (٦٩) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٧٠) إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (٧١) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (٧٢))
بنيت هذه السورة على إبطال جدل الذين يجادلون في آيات الله جدال التكذيب والتورّك كما تقدم في أول السورة إذ كان من أولها قوله : (ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) [غافر : ٤] وتكرر ذلك خمس مرات فيها ، فنبه على إبطال جدالهم في مناسبات الإبطال كلها إذ ابتدئ بإبطاله على الإجمال عقب الآيات الثلاث من أولها بقوله: (ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) [غافر : ٤] ثم بإبطاله بقوله : (الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ) [غافر : ٣٥] ، ثم بقوله : (إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ) [غافر : ٥٦] ثم بقوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ).
وذلك كله إيماء إلى أن الباعث لهم على المجادلة في آيات الله هو ما اشتمل عليه القرآن من إبطال الشرك فلذلك أعقب كل طريقة من طرائق إبطال شركهم بالإنحاء على جدالهم في آيات الله ، فجملة (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ) مستأنفة للتعجيب