الخطاب بأن يقال : لكم في الدنيا حسنة ، إلى الإتيان باسم الموصول الظاهر وهو (الَّذِينَ أَحْسَنُوا) ليشمل المخاطبين وغيرهم ممن ثبتت له هذه الصلة. وذلك في معنى : اتقوا ربكم لتكونوا محسنين فإن للذين أحسنوا حسنة عظيمة فكونوا منهم. وتقديم المسند في (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ) للاهتمام بالمحسن إليهم وأنهم أحرياء بالإحسان.
والمراد بالحسنة الحالة الحسنة ، واستغني بالوصف عن الموصوف على حد قوله : (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) [البقرة : ٢٠١]. وقوله في عكسه (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) [الشورى : ٤٠]. وتوسيط قوله : (فِي هذِهِ الدُّنْيا) بين (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا) وبين (حَسَنَةٌ) نظم مما اختص به القرآن في مواقع الكلم لإكثار المعاني التي يسمح بها النظم ، وهذا من طرق إعجاز القرآن. فيجوز أن يكون قوله : (فِي هذِهِ الدُّنْيا) حالا من (حَسَنَةٌ) قدم على صاحب الحال للتنبيه من أول الكلام على أنها جزاؤهم في الدنيا ، لقلة خطور ذلك في بالهم ضمن الله لهم تعجيل الجزاء الحسن في الدنيا قبل ثواب الآخرة على نحو ما أثنى على من يقول : (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً). وقد جاء في نظير هذه الجملة في سورة النحل [٣٠] قوله : (وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ) ، أي خير من أمور الدنيا ، ويكون الاقتصار على حسنة الدنيا في هذه الآية لأنها مسوقة لتثبيت المسلمين على ما يلاقونه من الأذى ، ولأمرهم بالهجرة عن دار الشرك والفتنة في الدين ، فأما ثواب الآخرة فأمر مقرر عندهم من قبل ومومى إليه بقوله بعده : (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) أي يوفون أجرهم في الآخرة. قال السدّي : الحسنة في الدنيا الصحة والعافية. ويجوز أن يكون قوله : «في الدنيا» متعلقا بفعل (أَحْسَنُوا) على أنه ظرف لغوي ، أي فعلوا الحسنات في الدنيا فيكون المقصود التنبيه على المبادرة بالحسنات في الحياة الدنيا قبل الفوات والتنبيه على عدم التقصير في ذلك.
وتنوين (حَسَنَةٌ) للتعظيم وهو بالنسبة لحسنة الآخرة للتعظيم الذاتي ، وبالنسبة لحسنة الدنيا تعظيم وصفي ، أي حسنة أعظم من المتعارف ، وأيّا ما كان فاسم الإشارة في قوله : (فِي هذِهِ الدُّنْيا) لتمييز المشار إليه وإحضاره في الأذهان. وعليه فالمراد ب (حَسَنَةٌ) يحتمل حسنة الآخرة ويحتمل حسنة الدنيا ، كما في قوله تعالى : الذين يقولون (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) في سورة البقرة [٢٠١]. وقد تقدم نظير هذه الآية في سورة النحل [٣٠] قوله تعالى : (وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ) ، فألحق بها ما قرر هنا.