إليهم أوامر إرشاده لأن ذلك حاصل للذين خوطبوا بالقرآن فأعرضوا عنه ولم يتطلبوا البحث عما يرضي الله تعالى فأصروا على الكفر.
وأشارت جملة (وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ) إلى معنى تهيئهم للاهتداء بما فطرهم الله عليه من عقول كاملة ، وأصل الخلقة ميّالة لفهم الحقائق غير مكترثة بالمألوف ولا مراعاة الباطل ، على تفاوت تلك العقول في مدى سرعة البلوغ للاهتداء ، فمنهم من آمن عند أول دعاء النبي صلىاللهعليهوسلم مثل خديجة وأبي بكر الصديق وعلي بن أبي طالب ، ومنهم من آمن بعيد ذلك أو بعده ، فأشير إلى رسوخ هذه الأحوال في عقولهم بذكر ضمير الفصل مع كلمة (أُولُوا) الدالة على أن الموصوف بها ممسك بما أضيفت إليه كملة (أُولُوا) ، وبما دل عليه تعريف (الْأَلْبابِ) من معنى الكمال ، فليس التعريف فيه تعريف الجنس لأن جنس الألباب ثابت لجميع العقلاء. وأشار إعادة اسم الإشارة إلى تميزهم بهذه الخصلة من بين نظرائهم وأهل عصرهم.
وفيه تنبيه على أن حصول الهداية لا بدّ له من فاعل وقابل ، فأشير إلى الفاعل بقوله تعالى : (هَداهُمُ اللهُ) ، وإلى القابل بقوله : (هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ). وفي هذه الجملة من القصر ما في قوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ).
وقد دل ثناء الله على عباده المؤمنين الكمّل بأنهم أحرزوا صفة اتباع أحسن القول الذي يسمعونه ، على شرف النظر والاستدلال للتفرقة بين الحق والباطل وللتفرقة بين الصواب والخطأ ولغلق المجال في وجه الشبهة ونفي تلبس السفسطة. وهذا منه ما هو واجب على الأعيان وهو ما يكتسب به الاعتقاد الصحيح على قدر قريحة الناظر ، ومنه واجب على الكفاية وهو فضيلة وكمال في الأعيان وهو النظر والاستدلال في شرائع الإسلام وإدراك دلائل ذلك والفقه في ذلك والفهم فيه والتهمم برعاية مقاصده في شرائع العبادات والمعاملات ، وآداب المعاشرة لإقامة نظام الجامعة الإسلامية على أصدق وجه وأكمله ، وإلجام الخائضين في ذلك بعماية وغرور ، وإلقام المتنطعين والملحدين.
ومما يتبع ذلك انتفاء أحسن الأدلة وأبلغ الأقوال الموصلة إلى هذا المقصود بدون اختلال ولا اعتلال بتهذيب العلوم ومؤلفاتها ، فقد قيل : خذوا من كل علم أحسنه أخذا من قوله تعالى هنا : (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ). وعن ابن زيد نزلت في زيد بن عمرو بن نفيل وأبي ذر الغفاري وسلمان الفارسي اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها في جاهليتهم واتّبعوا أحسن ما بلغهم من القول.