وأما لين الجلود عقب تلك القشعريرة فهو رجوع الجلود إلى حالتها السابقة قبل اقشعرارها ، وذلك قد يحصل عن تناس أو تشاغل بعد تلك الروعة ، فعطف عليه لين القلوب ليعلم أنه لين خاص ناشئ عن اطمئنان القلوب بالذكر كما قال تعالى : (أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [الرعد : ٢٨] وليس مجرد رجوع الجلود إلى حالتها التي كانت قبل القشعريرة. ولم يكتف بذكر لين القلوب عن لين الجلود لأنه قصد أن لين القلوب أفعمها حتى ظهر أثره على ظاهر الجلود.
و (ذِكْرِ اللهِ) وهو أحسن الحديث ، وعدل عن ضميره لبعد المعاد ، وعدل عن إعادة اسمه السابق لمدحه بأنه ذكر من الله بعد أن مدح بأنه أحسن الحديث والمراد ب ـ (ذِكْرِ اللهِ) ما في آياته من ذكر الرحمة والبشارة ، وذلك أن القرآن ما ذكر موعظة وترهيبا إلا أعقبه بترغيب وبشارة.
وعدّي فعل (تَلِينُ) بحرف (إِلى) لتضمين (تَلِينُ) معنى : تطمئن وتسكن.
(ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ)
استئناف بياني فإن إجراء تلك الصفات الغرّ على القرآن الدالة على أنه قد استكمل أقصى ما يوصف به كلام بالغ في نفوس المخاطبين كيف سلكت آثاره إلى نفوس الذين يخشون ربهم مما يثير سؤالا يهجس في نفس السامع أن يقول : كيف لم تتأثر به نفوس فريق المصرّين على الكفر وهو يقرع أسماعهم يوما فيوما ، فتقع جملة (ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ) جوابا عن هذا السؤال الهاجس.
فالإشارة إلى مضمون صفات القرآن المذكورة وتأثر المؤمنين بهديه ، أي ذلك المذكور هدى الله ، أي جعله الله سببا كاملا جامعا لوسائل الهدى ، فمن فطر الله عقله ونفسه على الصلاحية لقبول الهدى سريعا أو بطيئا اهتدى به ، كذلك ومن فطر الله قلبه على المكابرة ، أو على فساد الفهم ضلّ فلم يهتد حتى يموت على ضلاله ، فأطلق على هذا الفطر اسم الهدى واسم الضلال ، وأسند كلاهما إلى الله لأنه هو جبّار القلوب على فطرتها وخالق وسائل ذلك ومدبر نواميسه وأنظمته.
فمعنى إضافة الهدى إلى الله في قوله : (ذلِكَ هُدَى اللهِ) راجع إلى ما هيّأه الله للهدى من صفات القرآن فإضافته إليه بأنه أنزله لذلك. ومعنى إسناد الهدى والإضلال إلى الله راجع إلى مراتب تأثر المخاطبين بالقرآن وعدم تأثرهم بحيث كان القرآن مستوفيا لأسباب اهتداء الناس به فكانوا منهم من اهتدى به ومنهم من ضل عنه.