ويجوز عندي أن يكون الكلام تفريعا على جملة (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) [الزمر : ٢٣] تفريعا لتعيين ما صدق (من) في قوله : (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) ويكون (فَمَنْ يَتَّقِي) خبرا لمبتدإ محذوف ، تقديره : أفهو من يتقي بوجهه سوء العذاب ، والاستفهام للتقرير.
والاتقاء : تكلف الوقاية وهي الصون والدفع ، وفعلها يتعدى إلى مفعولين ، يقال : وفي نفسه ضرب السيف ، ويتعدّى بالباء إلى سبب الوقاية ، يقال : وقى بترسه ، وقال النابغة :
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه |
|
فتناولته واتّقتنا باليد |
وإذا كان وجه الإنسان ليس من شأنه أن يوقى به شيء من الجسد ، إذ الوجه أعزّ ما في الجسد وهو يوقى ولا يتقى به فإن من جبلّة الإنسان إذا توقع ما يصيب جسده ستر وجهه خوفا عليه ، فتعين أن يكون الاتقاء بالوجه مستعملا كناية عن عدم الوقاية على طريقة التهكم أو التلميح ، فكأنه قيل : من يطلب وقاية وجهه فلا يجد ما يقيه به إلا وجهه ، وهذا من إثبات الشيء بما يشبه نفيه ، وقريب منه قوله تعالى : (وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ) [الكهف : ٢٩].
و (سُوءَ الْعَذابِ) منصوب على المفعولية لفعل (يَتَّقِي). وأصله مفعول ثان إذ أصله : وقى نفسه سوء العذاب ، فلما صيغ منه الافتعال صار الفعل متعديا إلى مفعول واحد هو الذي كان مفعولا ثانيا.
(وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ)
يجوز أن يكون (وَقِيلَ) عطفا على الصلة. والتقدير : أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب ، وقيل لهم فإن (من) مراد بها جمع ، والتعبير بالظالمين إظهار في مقام الإضمار للإيماء إلى أن ما يلاقونه من العذاب مسبب على ظلمهم ، أي شركهم.
والمعنى : أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب فلا يجد وقاية تنجيه من ذوق العذاب فيقال لهم : ذوقوا العذاب.
ويجوز أن يكون المراد بالظالمين جميع الذين أشركوا بالله من الأمم غير خاص بالمشركين المتحدث عنهم ، فيكون الظالمين إظهارا على أصله لقصد التعميم ، فتكون الجملة في معنى التذييل ، أي ويقال لهؤلاء وأشباههم ، ويظهر بذلك وجه تعقيبه بقوله تعالى : (كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) [الزمر : ٢٥].