وهذا إيماء إلى أن إنزال الكتاب عليه نعمة كبرى تقتضي أن يقابلها الرسولصلىاللهعليهوسلم بالشكر بإفراده بالعبادة ، وإيماء إلى أن إشراك المشركين بالله غيره في العبادة كفر لنعمه التي أنعم بها ، فإن الشكر صرف العبد جميع ما أنعم الله به عليه فيما خلق لأجله ، وفي العبادة تحقيق هذا المعنى قال تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات : ٥٦].
فالمقصود من الأمر بالعبادة التوطئة إلى تقييد العبادة بحالة الإخلاص من قوله (مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) ، فالمأمور به عبادة خاصة ، ولذلك لم يكن الأمر بالعبادة مستعملا في معنى الأمر بالدوام عليها. ولذلك أيضا لم يؤت في هذا التركيب بصيغة قصر خلاف قوله : (بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ) [الزمر : ٦٦] لأن المقصود هنا زيادة التصريح بالإخلاص والرسولصلىاللهعليهوسلم منزه عن أن يعبد غير الله. وقد توهم ابن الحاجب من عدم تقديم المعمول هنا أن تقديم المفعول في قوله تعالى : (بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ) في آخر هذه السورة لا يفيد القصر وهي زلّة عالم.
والإخلاص : الإمحاض وعدم الشوب بمغاير ، وهو يشمل الإفراد. وسميت السورة التي فيها توحيد الله سورة الإخلاص ، أي إفراد الله بالإلهية. وأوثر الإخلاص هنا لإفادة التوحيد وأخصّ منه وهو أن تكون عبادة النبي صلىاللهعليهوسلم ربه غير مشوبة بحظ دنيوي كما قال تعالى : (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) [ص : ٨٦].
والدين : المعاملة. والمراد به هنا معاملة المخلوق ربّه وهي عبادته. فالمعنى : مخلصا له العبادة غير خالط بعبادته عبادة غيره. وانتصب (مُخْلِصاً) على الحال من الضمير المستتر في (فَاعْبُدِ).
ولما أفاد قوله : (مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) معنى إفراده بالعبادة لم يكن هنا مقتض لتقديم مفعول (فَاعْبُدِ اللهَ) على عامله لأن الاختصاص قد استفيد من الحال في قوله : (مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) ، وبذلك يبطل استناد الشيخ ابن الحاجب لهذه الآية في توجيه رأيه بإنكار إفادة تقديم المفعول على فعله التخصيص ، وتضعيفه لاستدلال أئمة المعاني بقوله تعالى : (بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ) آخر السورة [٦٦] بأنه تقديم لمجرد الاهتمام لورود (فَاعْبُدِ اللهَ) ، قال في «إيضاح المفصل» في شرح قول صاحب «المفصل» في الديباجة «الله أحمد على أن جعلني من علماء العربية» ، الله أحمد على طريقة (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) [الفاتحة : ٥] تقديما للأهم ، وما قيل : إنه للحصر لا دليل عليه والتمسك فيه بنحو (بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ) [الزمر : ٦٦] ضعيف لورود