وعذاب مقيم في الآخرة. فأما قوله في سورة الأنعام [١٣٥] : (قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ) فلم يذكر فيها العذاب لأنها جاءت بعد تهديدهم بقوله : (إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) [الأنعام : ١٣٤].
وحذف متعلّق (إِنِّي عامِلٌ) ليعمّ كل متعلّق يصلح أن يتعلق بعمل مع الاختصار فإن مقابلته بقوله : (اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) يدل على أنه أراد من (إِنِّي عامِلٌ) أنه ثابت على عمله في نصحهم ودعوتهم إلى ما ينجيهم. وأن حذف ذلك مشعر بأنه لا يقتصر على مقدار مكانته وحالته بل حالة تزداد كل حين قوة وشدة لا يعتريها تقصير ولا يثبطها إعراضهم ، وهذا من مستتبعات الحذف ولم ننبه عليه في سورة الأنعام وفي سورة هود.
و (مَنْ) استفهامية علّقت فعل (تَعْلَمُونَ) عن العمل في مفعوليه.
والعذاب المخزي هو عذاب الدنيا. والمراد به هنا عذاب السيف يوم بدر. والعذاب المقيم هو عذاب الآخرة ، وإقامته خلوده. وتنوين (عَذابٌ) في الموضعين للتعظيم المراد به التهويل.
وأسند فعل (يَأْتِيهِ) إلى العذاب المخزي لأن الإتيان مشعر بأنه يفاجئهم كما يأتي الطارق. وكذلك إسناد فعل (يَحِلُ) إلى العذاب المقيم لأن الحلول مشعر بالملازمة والإقامة معهم ، وهو عذاب الخلود ، ولذلك يسمى منزل القول حلة ، ويقال للقوم القاطنين غير المسافرين هم حلال ، فكان الفعل مناسبا لوصفه بالمقيم. وتعدية فعل (يَحِلُ) بحرف (على) للدلالة على تمكنه.
(إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (٤١))
الجملة تعليل للأمر بأن يقول لهم اعملوا على مكانتكم المفيد موادعتهم وتهوين تصميم كفرهم عليه ، وتثبيته على دعوته. والمعنى : لأنا نزلنا عليك الكتاب بالحق لفائدة الناس وكفاك ذلك شرفا وهداية وكفاك تبليغه إليهم فمن اهتدى من الناس فهدايته لنفسه بواسطتك ومن ضل فلم يهتد به فضلاله على نفسه وما عليك من ضلالهم تبعة لأنك بلغت ما أمرت به. ولذلك خولف بين ما هنا وبين قوله في صدر السورة (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِ) [الزمر : ٢] ، لأن تلك في غرض التنويه بشأن النبي صلىاللهعليهوسلم فناسب أن يكون إنزال الكتاب إليه ، و (لِلنَّاسِ) متعلق ب ـ (أَنْزَلْنا) ، و (بِالْحَقِ) حال من (الْكِتابَ) ،