وصّى به إبراهيم وموسى وعيسى ، والشيء الموحى به إليك. ولعل هذا من نكت الإعجاز المغفول عنها. وفي العدول من الغيبة إلى التكلم في قوله : (وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) بعد قوله (شَرَعَ لَكُمْ) التفات.
وذكر في جانب الشرائع الأربع السابقة فعل (وَصَّى) وفي جانب شريعة محمدصلىاللهعليهوسلم فعل الإيحاء لأن الشرائع التي سبقت شريعة الإسلام كانت شرائع موقتة مقدّرا ورود شريعة بعدها فكان العمل بها كالعمل الذي يقوم به مؤتمن على شيء حتى يأتي صاحبه ، وليقع الاتصال بين فعل (أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) وبين قوله في صدر السورة (كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [الشورى : ٣].
و (أَنْ) في قوله : (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ) يجوز أن تكون مصدرية ، فإنّها قد تدخل على الجملة الفعلية التي فعلها متصرف ، والمصدر الحاصل منها في موضع بدل الاشتمال من (ما) الموصولة الأولى أو الأخيرة. وإذا كان بدلا من إحداهما كان في معنى البدل من جميع أخواتهما لأنها سواء في المفعولية لفعل (شَرَعَ) بواسطة العطف فيكون الأمر بإقامة الدّين والنهي عن التفرق فيه مما اشتملت عليه وصاية الأديان. ويجوز أن تكون تفسيرية لمعنى (وَصَّى) لأنه يتضمن معنى القول دون حروفه. فالمعنى : أن إقامة الدّين واجتماع الكلمة عليه أوصى الله بها كلّ رسول من الرّسل الذين سماهم. وهذا الوجه يقتضي أن ما حكي شرعه في الأديان السابقة هو هذا المعنى وهو إقامة الدّين المشروع كما هو ، والإقامة مجملة يفسرها ما في كل دين من الفروع.
وإقامة الشيء : جعله قائما ، وهي استعارة للحرص على العمل به كقوله : (وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ) ، وقد تقدم في سورة البقرة [٣].
وضمير (أَقِيمُوا) مراد به : أمم أولئك الرسل ولم يسبق لهم ذكر في اللّفظ لكن دل على تقديرهم ما في فعل (وَصَّى) من معنى التبليغ. وأعقب الأمر بإقامة الدّين بالنهي عن التفرق في الدين.
والتفرق : ضد التجمع ، وأصله : تباعد الذوات ، أي اتساع المسافة بينها ويستعار كثيرا لقوّة الاختلاف في الأحوال والآراء كما هنا ، وهو يشمل التفرق بين الأمة بالإيمان بالرّسول ، والكفر به ، أي لا تختلفوا على أنبيائكم ، ويشمل التفرق بين الذين آمنوا بأن يكونوا نحلا وأحزابا ، وذلك اختلاف الأمة في أمور دينها ، أي في أصوله وقواعده