وهذه مسألة أرجع المحققون الخلاف فيها إلى اللفظ والبناء على المصطلحات والاعتبارات الموافقة لدقائق المذاهب ، إذ لا ينازع أحد في نعمة المنعمين منهم وقد قال تعالى: (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ) [المزمل : ١١].
وعطف (وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ) على صفة (لَطِيفٌ) أو على جملة (يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ) وهو تمجيد لله تعالى بهاتين الصفتين ، ويفيد الاحتراس من توهم أن لطفه عن عجز أو مصانعة ، فإنه قوي عزيز لا يعجز ولا يصانع ، أو عن توهم أن رزقه لمن يشاء عن شحّ أو قلّة فإنه القويّ ، والقوي تنتفي عنه أسباب الشحّ ، والعزيز ينتفي عنه سبب الفقر فرزقه لمن يشاء بما يشاء منوط لحكمة علمها في أحوال خلقه عامة وخاصة ، قال تعالى : (وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ) [الشورى : ٢٧] الآية.
والإخبار عن اسم الجلالة بالمسند المعرّف باللام يفيد معنى قصر القوة والعزة عليه تعالى ، وهو قصر الجنس للمبالغة لكماله فيه تعالى حتى كأنّ قوة غيره وعزّة غيره عدم.
(مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (٢٠))
هذه الآية متصلة بقوله : (يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها) [الشورى : ١٨] الآية ، لما تضمنته من وجود فريقين : فريق المؤمنين أكبر همهم حياة الآخرة ، وفريق الذين لا يؤمنون همهم قاصرة على حياة الدّنيا ، فجاء في هذه الآية تفصيل معاملة الله الفريقين معاملة متفاوتة مع استوائهم في كونهم عبيده وكونهم بمحل لطف منه ، فكانت جملة (اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ) [الشورى : ١٩] تمهيدا لهذه الجملة ، وكانت هاته الجملة تفصيلا لحظوظ الفريقين في شأن الإيمان بالآخرة وعدم الإيمان بها.
ولأجل هذا الاتصال بينها وبين جملة (يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها) [الشورى: ١٨] ترك عطفها عليها ، وترك عطف توطئتها كذلك ، ولأجل الاتصال بينها وبين جملة (اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ) [الشورى : ١٩] اتصال المقصود بالتوطئة ترك عطفها على جملة (اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ).
والحرث : أصله مصدر حرث ، إذ شقّ الأرض ليزرع فيها حبّا أو ليغرس فيها شجرا ، وأطلق على الأرض التي فيها زرع أو شجر وهو إطلاق كثير كما في قوله تعالى : (أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ) [القلم : ٢٢] ، أي جنتكم لقوله قبله (كَما بَلَوْنا