باعتبار تعدد المقتاتين ، فللدواب أقوات ، وللطير أقوات ، وللوحوش أقوات ، وللزواحف أقوات ، وللحشرات أقوات ، وجعل للإنسان جميع تلك الأقوات مما استطاب منها كما أفاده قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) ومضى الكلام عليه في سورة البقرة [٢٩].
وقوله : (فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ) فذلكة لمجموع مدة خلق الأرض جرمها ، وما عليها من رواسي ، وما فيها من القوى ، فدخل في هذه الأربعة الأيام اليومان اللذان في قوله : (فِي يَوْمَيْنِ) [فصلت : ٩] فكأنه قيل : في يومين آخرين فتلك أربعة أيام ، فقوله في (أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ) فذلكة ، وعدل عن ذلك إلى ما في نسج الآية لقصد الإيجاز واعتمادا على ما يأتي بعده من قوله : (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ) [فصلت : ١٢] ، فلو كان اليومان اللذان قضى فيهما خلق السماوات زائدين على ستة أيام انقضت في خلق الأرض وما عليها لصار مجموع الأيام ثمانية ، وذلك ينافي الإشارة إلى عدّة أيام الأسبوع ، فإن اليوم السابع يوم فراغ من التكوين. وحكمة التمديد للخلق أن يقع على صفة كاملة متناسبة.
و (سَواءً) قرأه الجمهور بالنصب على الحال من (أَيَّامٍ) أي كاملة لا نقص فيها ولا زيادة. وقرأه أبو جعفر مرفوعا على الابتداء بتقدير : هي سواء. وقرأه يعقوب مجرورا على الوصف ل (أَيَّامٍ).
و (لِلسَّائِلِينَ) يتنازعه كل من أفعال (جَعَلَ) و (بارَكَ) و (قَدَّرَ) فيكون (لِلسَّائِلِينَ) جمع سائل بمعنى الطالب للمعرفة ، ويجوز أن يتعلق بمحذوف ، أي بيّنا ذلك للسائلين ويجوز أن يكون ل (السَّائِلِينَ) متعلقا بفعل (قَدَّرَ فِيها أَقْواتَها) فيكون المراد بالسائلين الطالبين للقوت.
(ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (١١))
(ثُمَ) للترتيب الرتبي ، وهي تدل على أن مضمون الجملة المعطوفة أهم مرتبة من مضمون الجملة المعطوف عليها ، فإن خلق السماوات أعظم من خلق الأرض ، وعوالمها أكثر وأعظم ، فجيء بحرف الترتيب الرتبي بعد أن قضي حق الاهتمام بذكر خلق الأرض حتى يوفّى المقتضيان حقّهما. وليس هذا بمقتض أن الإرادة تعلقت بخلق السماء بعد تمام خلق الأرض ولا مقتضيا أن خلق السماء وقع بعد خلق الأرض كما سيأتي.