ومن هذا الوحي مرائي الأنبياء فإنها وحي ، وهي ليست بكلام يلقى إليهم ، ففي الحديث «إني رأيت دار هجرتكم وهي في حرّة ذات نخل فوقع في وهلي أنها اليمامة أو هجر فإذا هي طابة». وقد تشتمل الرؤيا على إلهام وكلام مثل حديث «رأيت بقرا تذبح ورأيت والله خير» في رواية رفع اسم الجلالة ، أي رأيت هذه الكلمة ، وقد أول النبيصلىاللهعليهوسلم رؤياه البقر التي تذبح بما أصاب المسلمين يوم أحد ، وأمّا «والله خير» فهو ما أتى الله به بعد ذلك من الخير.
ومن الإلهام مرائي الصالحين فإنها جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوءة.
وليس الإلهام بحجة في الدّين لأن غير المعصوم لا يوثق بصحة خواطره إذ ليس معصوما من وسوسة الشيطان. وبعض أهل التصوف وحكماء الإشراق يأخذون به في خاصّتهم ويدّعون أن أمارات تميز لهم بين صادق الخواطر وكاذبها ومنه قول قطب الدين الشيرازي في ديباجة شرحه على «المفتاح» «إني قد ألقي إليّ على سبيل الإنذار من حضرة الملك الجبار بلسان الإلهام لا كوهم من الأوهام» إلى أن قال «ما أورثني التجافي عن دار الغرور». ومنه ما ورد في قول النبي صلىاللهعليهوسلم «إنّ روح القدس نفث في روعي أنّ نفسا لن تموت حتّى تستوفي أجلها ورزقها» على أحد تفسيرين فيه ، ولا ريب في أنه المراد هنا لأن ألفاظ هذا الحديث جرت على غير الألفاظ التي يحكى بها نزول الوحي بواسطة كلام جبريلعليهالسلام.
والنوع الثاني : أن يكون الكلام من وراء حجاب يسمعه سامعه ولا يرى مصدره بأن يخلق الله كلاما في شيء محجوب عن سامعه وهو ما وصف الله هنا بقوله : (أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ).
والمعنى : أو محجوبا المخاطب ـ بالفتح ـ عن رؤية مصدر الكلام ، فالكلام كأنه من وراء حجاب ، وهذا مثل تكليم الله تعالى موسى في البقعة المباركة من الشجرة ، ويحصل علم المخاطب بأن ذلك الكلام من عند الله أول مرة بآية يريه الله إياها يعلم أنها لا تكون إلا بتسخير الله كما علم موسى ذلك بانقلاب عصاه حيّة ثم عودها إلى حالتها الأولى ، وبخروج يده من جيبه بيضاء ، كما قال تعالى : (آيَةً أُخْرى لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) [طه : ٢٢ ، ٢٤]. ثم يصير بعد ذلك عادة يعرف بها كلام الله.
واختص بهذا النوع من الكلام في الرسل السابقين موسى عليهالسلام وهو المراد من قوله تعالى : (قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ) برسالتي وبكلامي [الأعراف :