الواقع لأن العرب لم يعبد منهم الملائكة إلا طوائف قليلة عبدوا الجن والملائكة مع الأصنام وليست هي الديانة العامة للعرب. وهذه المقالة مثارها تخليط العامة والدهماء من عهد الجاهلية بين المشيئة والإرادة ، وبين الرضى والمحبة ، فالعرب كانوا يقولون : شاء الله وإن شاء الله ، وقال طرفة :
فلو شاء ربّي كنت قيس بن عاصم |
|
ولو شاء ربّي كنت عمرو بن مرثد |
فبنوا على ذلك تخليطا بين مشيئة الله بمعنى تعلق إرادته بوقوع شيء ، وبين مشيئته التي قدّرها في نظام العالم من إناطة المسببات بأسبابها ، واتصال الآثار بمؤثراتها التي رتبها الله بقدر حين كوّن العالم ونظّمه وأقام له سننا ونواميس لا تخرج عن مدارها إلّا إذا أراد الله قلب نظمها لحكمة أخرى. فمشيئة الله بالمعنى الأول يدل عليها ما أقامه من نظام أحوال العالم وأهله. ومشيئته بالمعنى الثاني تدل عليها شرائعه المبعوث بها رسله.
وهذا التخليط بين المشيئتين هو مثار خبط أهل الضلالات من الأمم ، ومثار حيرة أهل الجهالة والقصور من المسلمين في معنى القضاء والقدر ومعنى التكليف والخطاب. وقد بيّنا ذلك عند قوله تعالى : (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا) في سورة الأنعام [١٤٨].
وهذا القول الصادر منهم ينتظم منه قياس استثنائي أن يقال : لو شاء الله ما عبدنا الأصنام ، بدليل أن الله هو المتصرف في شئوننا وشئون الخلائق لكنا عبدنا الأصنام بدليل المشاهدة فقد شاء الله أن نعبد الأصنام.
وقد أجيبوا عن قولهم بقوله تعالى : (ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ) أي ليس لهم مستند ولا حجة على قياسهم لأن مقدّم القياس الاستثنائي وهو (لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ) مبنيّ على التباس المشيئة التكوينية بالمشيئة التكليفية فكان قياسهم خليا عن العلم وهو اليقين ، فلذلك قال الله : (ما لَهُمْ بِذلِكَ) أي بقولهم ذلك (مِنْ عِلْمٍ) بل هو من جهالة السفسطة واللّبس. والإشارة إلى الكلام المحكي بقوله : (وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ).
وجملة (إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) بيان لجملة (ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ).
والخرص : التوهم والظنّ الذي لا حجة فيه قال تعالى : (قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ) [الذاريات : ١٠].
(أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (٢١))