فيكون في (تَحْتِي) استعارة للتمكن من تصاريف النيل كالاستعارة في قوله تعالى : (قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) [مريم : ٢٤] على تفسير (سريا) بنهر ، وكان مثل هذا الكلام يروج على الدهماء لسذاجة عقولهم. ويجوز أن يكون المراد بالأنهار مصبّ المياه التي كانت تسقي المدينة والبساتين التي حولها وأن توزيع المياه كان بأمره في سداد وخزّانات ، فهو يهوّل عليهم بأنه إذا شاء قطع عنهم الماء على نحو قول يوسف (أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ) [يوسف : ٥٩] فيكون معنى (مِنْ تَحْتِي) من تحت أمري أي لا تجري إلا بأمري ، وقد قيل : كانت الأنهار تجري تحت قصره.
والاستفهام في (أَفَلا تُبْصِرُونَ) تقريري جاء التقرير على النفي تحقيقا لإقرارهم حتى أن المقرر يفرض لهم الإنكار فلا ينكرون.
(أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ (٥٢))
(أَمْ) منقطعة بمعنى (بل) للإضراب الانتقالي. والتقدير : بل أأنا خير ، والاستفهام اللازم تقديره بعدها تقريريّ. ومقصوده : تصغير شأن موسى في نفوسهم بأشياء هي عوارض ليست مؤثرة انتقل من تعظيم شأن نفسه إلى إظهار البون بينه وبين موسى الذي جاء يحقر دينه وعبادة قومه إياه ، فقال : أنا خير من هذا. والإشارة هنا للتحقير. وجاء بالموصول لادعاء أن مضمون الصلة شيء عرف به موسى.
والمهين بفتح الميم : الذليل الضعيف ، أراد أنه غريب ليس من أهل بيوت الشرف في مصر وليس له أهل يعتزّ بهم ، وهذا سفسطة وتشغيب إذ ليس المقام مقام انتصار حتى يحقّر القائم فيه بقلة النصير ، ولا مقام مباهاة حتى ينتقص صاحبه بضعف الحال.
وأشار بقوله : (وَلا يَكادُ يُبِينُ) إلى ما كان في منطق موسى من الحبسة والفهاهة كما حكى الله في الآية عن موسى (وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي) [القصص : ٣٤] وفي الأخرى (وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي) [طه : ٢٧ ، ٢٨] ، وليس مقام موسى يومئذ مقام خطابة ولا تعليم وتذكير حتى تكون قلة الفصاحة نقصا في عمله ، ولكنه مقام استدلال وحجة فيكفي أن يكون قادرا على إبلاغ مراده ولو بصعوبة وقد أزال الله عنه ذلك حين تفرغ لدعوة بني إسرائيل كما قال : (قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى) [طه : ٣٦]. ولعلّ فرعون قال ذلك لما يعلم من حال موسى قبل أن يرسله الله حين كان في بيت فرعون فذكر ذلك من حاله ليذكّر الناس بأمر قديم فإن فرعون الذي بعث موسى في