وقرأ الجمهور (رَبِّ السَّماواتِ) برفع (رَبِ) على أنه خبر مبتدأ محذوف ، وهو من حذف المسند إليه لمتابعة الاستعمال في مثله بعد إجراء أخبار أو صفات عن ذات ثم يردف بخبر آخر ، ومن ذلك قولهم بعد ذكر شخص : فتى يفعل ويفعل. وهو من الاستئناف البياني إذ التقدير : إن أردت أن تعرفه فهو كذا. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي وخلف بجر (رَبِ) على أنه بدل من قوله : (رَبِّكَ) [الدخان : ٦].
وحذف متعلق (مُوقِنِينَ) للعلم به من قوله : (رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما). وجواب الشرط محذوف دل عليه المقام. والتقدير : إن كنتم موقنين فلا تعبدوا غيره ، ولذلك أعقبه بجملة (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) [الدخان : ٨].
(لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٨))
جملة (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) نتيجة للدليل المتقدم لأن انفراده بربوبية السماوات والأرض وما بينهما دليل على انفراده بالإلهية ، أي على بطلان إلهية أصنامهم فكانت هذه الجملة نتيجة لذلك فلذلك فصلت لشدة اقتضاء الجملة التي قبلها إياها.
وجملة (يُحْيِي وَيُمِيتُ) مستأنفة للاستدلال على أنه لا إله إلا هو بتفرده بالإحياء والإماتة ، والمشركون لا ينازعون في أن الله هو المحيي والمميت فكما استدل عليهم بتفرده بإيجاد العوالم وما فيها استدل عليهم بخلق أعظم أحوال الموجودات وهي حالة الحياة التي شرّف بها الإنسان عن موجودات العالم الأرضي وكرّم أيضا بإعطائها للحيوان لتسخيره لانتفاع الإنسان به بسببها ، وبتفرده بالإماتة وهي سلب الحياة عن الحيّ للدلالة على أن الحياة ليست ذاتية للحيّ. ولما كان تفرده بالإحياء والإماتة دليلا واضحا في أحوال المخاطبين وفيما حولهم من ظهور الأحياء بالولادة والأموات بالوفاة يوما فيوما من شأنه أن لا يجهلوا دلالته بله جحودهم إياها ومع ذلك قد عبدوا الأصنام التي لا تحيي ولا تميت ، أعقب بإثبات ربوبيته للمخاطبين تسجيلا عليهم بجحد الأدلة وبكفران النعمة.
وعطف (وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) ليسجل عليهم الإلزام بقولهم : (وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ) [الزخرف : ٢٢]. ووصفهم ب (الْأَوَّلِينَ) لأنهم جعلوا أقدم الآباء حجة أعظم من الآباء الأقربين كما قال تعالى حكاية عنهم (ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ) [المؤمنون : ٢٤].
(بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (٩))