وأما رزقهم من الطيبات فبأن يسّر لهم امتلاك بلاد الشام التي تفيض لبنا وعسلا كما في التوراة في وعد إبراهيم والتي تجبى إليها ثمرات الأرضين المجاورة لها وترد عليها سلع الأمم المقابلة لها على سواحل البحر فتزخر مراسيها بمختلف الطعام واللباس والفواكه والثمار والزخارف ، وذلك بحسن موقع البلاد من بين المشرق برا والمغرب بحرا. و (الطَّيِّباتِ) : هي التي تطيب عند الناس وتحسن طعما ومنظرا ونفعا وزينة. وأما تفضيلهم على العالمين فبأن جمع الله لهم بين استقامة الدّين والخلق ، وبين حكم أنفسهم بأنفسهم ، وبث أصول العدل فيهم ، وبين حسن العيش والأمن والرخاء ، فإن أمما أخرى كانوا في بحبوحة من العيش ولكن ينقص بعضها استقامة الدّين والخلق ، وبعضها عزة حكم النفس وبعضها الأمن بسبب كثرة الفتن.
والمراد ب (الْعالَمِينَ) : أمم زمانهم وكل ذلك إخبار عما مضى من شأن بني إسرائيل في عنفوان أمرهم لا عمّا آل إليه أمرهم بعد أن اختلفوا واضمحل ملكهم ونسخت شريعتهم.
و (بَيِّناتٍ) صفة نزلت منزلة الجامد ، فالبينة : الحجة الظاهرة ، أي آتيناهم حججا ، أي علمناهم بواسطة كتبهم وبواسطة علمائهم حجج الحق والهدى التي من شأنها أن لا تترك للشك والخطإ إلى نفوسهم سبلا إلا سدتها.
و (الْأَمْرِ) : الشأن كما في قوله : (وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) [هود : ٩٧] والتعريف في (الْأَمْرِ) للتعظيم ، أي من شئون عظيمة ، أي شأن الأمة وما به قوام نظامها إذ لم يترك موسى والأنبياء من بعده شيئا مهما من مصالحهم إلا وقد وضحوه وبينوه وحذروا من الالتباس فيه.
و (مِنَ) في قوله (مِنَ الْأَمْرِ) بمعنى (في) الظرفيّة فيحصل من هذا أن معنى (وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ) : علمناهم حججا وعلوما في أمر دينهم ونظامهم بحيث يكونون على بصيرة في تدبير مجتمعهم وعلى سلامة من مخاطر الخطإ والخطل. وفرع على ذلك قوله (فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ) تفريع إدماج لمناسبته للحالة التي أريد تنظيرها. وتقدير الكلام : فاختلفوا وما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم ، فحذف المفرّع لدلالة ما بعده عليه على طريقة الإيجاز إذ المقصود هو التعجيب من حالهم كيف اختلفوا حين لا مظنة للاختلاف إذ كان الاختلاف بينهم بعد ما جاءهم العلم المعهود بالذكر آنفا من الكتاب والحكم والنبوءة والبينات من الأمر ، ولو اختلفوا قبل ذلك لكان