لهم عذر في الاختلاف وهذا كقوله تعالى : (وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ) [الجاثية : ٢٣]. وهذا الكلام كناية عن عدم التعجيب من اختلاف المشركين مع المؤمنين حيث أن المشركين ليسوا على علم ولا هدى ليعلم رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه ملطوف به في رسالته.
والبغي : الظلم. والمراد : أن اختلافهم عن عمد ومكابرة بعضهم لبعض وليس عن غفلة أو تأويل ، وهذا الظلم هو ظلم الحسد فإن الحسد من أعظم الظلم ، أي فكذلك حال نظرائهم من المشركين ما اختلفوا على النبي صلىاللهعليهوسلم إلا بغيا منهم عليه مع علمهم بصدقه بدلالة إعجاز القرآن لفظا ومعاني.
وانتصب (بَغْياً) إمّا على المفعول لأجله ، وإمّا على الحال بتأويل المصدر باسم الفاعل ، وعلى كلا الوجهين فالعامل فيه فعل (اخْتَلَفُوا) ، وإن كان منفيا في اللفظ لأن الاستثناء أبطل النفي إذ ما أريد إلا نفي أن يكون الاختلاف في وقت قبل أن يحثهم العلم فلما استفيد ذلك بالاستثناء صار الاختلاف ثابتا وما عدا ذلك غير منفي.
وجملة (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) مستأنفة استئنافا بيانيا لأن خبرهم العجيب يثير سؤالا في نفس سامعه عن جزاء الله إياهم على فعلهم ، وهذا جواب فيه إجمال لتهويل ما سيقضى به بينهم في الخير والشر لأن الخلاف يقتضي محقّا ومبطلا.
ونظير هذه الآية قوله تعالى : (وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) في سورة يونس [٩٣].
[١٨ ، ١٩] (ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (١٨) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (١٩))
(ثُمَ) للتراخي الرتبي كما هو شأنها في عطف الجمل ، ولو لا إرادة التراخي الرتبي لكانت الجملة معطوفة بالواو. وهذا التراخي يفيد أن مضمون الجملة المعطوفة بحرف (ثُمَ) أهم من مضمون الجملة المعطوف عليها أهمية الغرض على المقدمة والنتيجة على الدليل. وفي هذا التراخي تنويه بهذا الجعل وإشارة إلى أنه أفضل من إيتاء بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوءة والبيّنات من الأمر ، فنبوة محمد صلىاللهعليهوسلم وكتابه وحكمه وبيناته