وبلو الإخبار : ظهور الأحدوثة من حسن السمعة وضده. وهذا في معنى قول الأصوليين ترتّب المدح والذم عاجلا ، وهو كناية أيضا عن أحوال أعمالهم من خير وشر لأن الأخبار إنما هي أخبار عن أعمالهم ، وهذه علة ثانية عطفت على قوله : (حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ). وإنما أعيد عطف فعل (نَبْلُوَا) على فعل (نَعْلَمَ) وكان مقتضى الظاهر أن يعطف (أَخْبارَكُمْ) بالواو على ضمير المخاطبين في (لَنَبْلُوَنَّكُمْ) ولا يعاد (نَبْلُوَا) ، فالعدول عن مقتضى ظاهر النظم إلى هذا التركيب للمبالغة في بلو لأخبار لأنه كناية عن بلو أعمالهم وهي المقصود من بلو ذواتهم ، فذكره كذكر العام بعد الخاص إذ تعلق البلو الأول بالجهاد والصبر ، وتعلق البلو الثاني بالأعمال كلها ، وحصل مع ذلك تأكيد البلو تأكيدا لفظيا. وقرأ الجمهور (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ وَنَبْلُوَا) بالنون في الأفعال الثلاثة. وقرأ أبو بكر عن عاصم تلك الأفعال الثلاثة بياء الغيبة والضمائر عائدة إلى اسم الجلالة في قوله : (وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ). وقرأ الجمهور (وَنَبْلُوَا) بفتح الواو عطفا على (نَعْلَمَ). وقرأه رويس عن يعقوب بسكون الواو عطفا على (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ).
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ (٣٢))
الظاهر أن المعنيّ بالذين كفروا هنا الذين كفروا المذكورون في أول هذه السورة وفيما بعد من الآيات التي جرى فيها ذكر الكافرين ، أي الكفار الصرحاء عاد الكلام إليهم بعد الفراغ من ذكر المنافقين الذين يخفون الكفر ، عودا على بدء لتهوين حالهم في نفوس المسلمين ، فبعد أن أخبر الله أنه أضل أعمالهم وأنهم اتبعوا الباطل وأمر بضرب رقابهم وأن التعس لهم وحقّرهم بأنهم يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام ، وأن الله أهلك قرى هي أشد منهم قوة ، ثم جرى ذكر المنافقين ، بعد ذلك ثني عنان الكلام إلى الذين كفروا أيضا ليعرّف الله المسلمين بأنهم في هذه المآزق التي بينهم وبين المشركين لا يلحقهم منهم أدنى ضرّ ، وليزيد وصف الذين كفروا بأنهم شاقّوا الرسول صلىاللهعليهوسلم.
فالجملة استئناف ابتدائي وهي توطئة لقوله : (فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ) [محمد:٣٥]. وفعل (شَاقُّوا) مشتق من كلمة شق بكسر الشين وهو الجانب ، والمشاقة المخالفة ، كني بالمشاقة عن المخالفة لأن المستقر بشق مخالف للمستقر بشق آخر فكلاهما مخالف ، فلذلك صيغت منه صيغة المفاعلة.