صيغة الغائب المفرد لأن الجمع مستثنى ب (إِلَّا) وهي فاصلة بينه وبين الفعل.
(وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٢٦))
هذا استخلاص لموعظة المشركين بمثل عاد ، ليعلموا أن الذي قدر على إهلاك عاد قادر على إهلاك من هم دونهم في القوة والعدد ، وليعلموا أن القوم كانوا مثلهم مستجمعين قوى العقل والحسّ وأنهم أهملوا الانتفاع بقواهم فجحدوا بآيات الله واستهزءوا بها وبوعيده فحاق بهم ما كانوا يستهزءون به ، وقريش يعلمون أن حالهم مثل الحال المحكيّة عن أولئك فليتهيّئوا لما سيحلّ بهم. ولإفادة هذا الاستخلاص غيّر أسلوب الكلام إلى خطاب المشركين من أهل مكة ، فالجملة في موضع الحال من واو الجماعة في (قالُوا أَجِئْتَنا) [الأحقاف : ٢٢] والخبر مستعمل في التعجيب من عدم انتفاعهم بمواهب عقولهم. وتأكيد هذا الخبر بلام القسم مع أن مفاده لا شك فيه مصروف إلى المبالغة في التعجيب.
والتمكين : إعطاء المكنة (بفتح الميم وكسر الكاف) وهي القدرة والقوة. يقال : مكن من كذا وتمكن منه ، إذا قدر عليه. ويقال : مكّنه في كذا ، إذا جعل له القدرة على مدخول حرف الظرفية فيفسر بما يليق بذلك الظرف قال تعالى : (مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ) نمكن (لَكُمْ) في سورة الأنعام [٦].
فالمعنى : جعلنا لهم القدرة في الذي لم نمكنكم فيه ، أي من كل ما يمكّن فيه الأقوام والأمم ، وتقدم عند قوله تعالى : (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ) في أول الأنعام [٦] فضمّ إليه ما هنا.
و (ما) من قوله (فِيما) موصولة. و (إِنْ) نافية ، أي في الذي ما مكّناكم فيه.
ومعنى مكناكم فيه : مكناكم في مثله أو في نوعه فإن الأجناس والأنواع من الذوات حقائق معنوية لا تتغير مواهبها وإنما تختلف بوجودها في الجزئيات ، فلذلك حسن تعدية فعل (مَكَّنَّاكُمْ) بحرف الظرفية إلى ضمير اسم الموصول الصادق على الأمور التي مكنت منها عاد. ومن بديع النظم أن جاء النفي هنا بحرف (إِنْ) النافية مع أنّ النفي بها أقل استعمالا من النفي ب (ما) النافية قصدا هنا لدفع الكراهة من توالي مثلين في النطق وهما (ما) الموصولة و (ما) النافية وإن كان معناهما مختلفا ، ألا ترى أن العرب عوضوا الهاء