فتمحض للاسمية ، ولا التفات فيه إلى زمن من الأزمنة الثلاثة ، ولذا فمعنى (فَلا ناصِرَ لَهُمْ) : فلم ينصرهم أحد فيما مضى. ولا حاجة إلى إجراء ما حصل في الزمن الماضي مجرى زمن الحال ، وقولهم اسم الفاعل حقيقة في الحال جرى على الغالب فيما إذا أريد به معنى الفعل. وقرأ الجمهور : (وَكَأَيِّنْ) بهمزة بعد الكاف وبتشديد الياء. وقرأه ابن كثير بألف بعد الكاف وتخفيف الياء مكسورة وهي لغة.
(أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (١٤))
تفريع على جملة (أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ) [محمد : ١٣] لتحقيق أنهم لا ناصر لهم تحقيقا يرجع إلى ما في الكلام من المعنى التعريضي فهو شبيه بالاستئناف البياني جاء بأسلوب التفريع.
ويجوز مع ذلك أن يكون مفرّعا على ما سبق من قوله : (إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) [محمد : ١٢] الآية ، فيكون له حكم الاعتراض لأنه تفريع على اعتراض. وهذا تفنن في تلوين الكلام لتجديد نشاط السامعين هو من الأساليب التي ابتكرها القرآن في كلام العرب. والاستفهام مستعمل في إنكار المماثلة التي يقتضيها حرف التشبيه.
والمقصود من إنكار المشابهة بين هؤلاء وهؤلاء هو تفضيل الفريق الأول ، وإنكار زعم المشركين أنهم خير من المؤمنين كما ظهر ذلك عليهم في مواطن كثيرة كقولهم : (لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ) [الأحقاف : ١١] (وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ) [المطففين : ٣٢] (فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ) [المؤمنون : ١١٠].
والمراد بالموصولين فريقان كما دل عليه قوله في أحدهما (وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ).
والبينة : البرهان والحجة ، أي حجة على أنه محق. و (مِنْ) ابتدائية ، وفي التعبير بوصف الرب وإضافته إلى ضمير الفريق تنبيه على زلفى الفريق الذي تمسك بحجة الله.
ومعنى وصف البينة بأنها من الله : أن الله أرشدهم إليها وحرّك أذهانهم فامتثلوا وأدركوا الحق ، فالحجة حجة في نفسها وكونها من عند الله تزكية لها وكشف للتردّد فيها وإتمام لدلالتها ، كما يظهر الفرق بين أخذ العلم عن متضلع فيه وأخذه عن مستضعف فيه وإن كان مصيبا. و (على) للاستعلاء المجازي الذي هو بمعنى التمكن كما في قوله تعالى : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) في سورة البقرة [٥].