وهذا الفريق هم المؤمنون وهم ثابتون على الدين واثقون بأنهم على الحق. فلا جرم يكون لهم الفوز في الدنيا لأن الله يسّر لهم أسبابه فإن قاتلوا كانوا على ثقة بأنهم على الحق وأنهم صائرون إلى إحدى الحسنيين فقويت شجاعتهم ، وإن سالموا عنوا بتدبير شأنه وما فيه نفع الأمة والدين فلم يألوا جهدا في حسن أعمالهم ، وذلك من آثار أن الله أصلح بالهم وهداهم. والفريق الذين زيّن له سوء عمله هم المشركون ، فإنهم كانوا في أحوال السوأى من عبادة الأصنام والظلم والعدوان وارتكاب الفواحش ، فلما نبههم الله لفساد أعمالهم بأن أرسل إليهم رسولا بين لهم صالح الأعمال وسيئاتها لم يدركوا ذلك ورأوا فسادهم صلاحا فتزينت أعمالهم في أنظارهم ولم يستطيعوا الإقلاع عنها وغلب إلفهم وهواهم على رأيهم فلم يعبئوا باتباع ما هو صلاح لهم في العاجل والآجل ، فذلك معنى قوله : (كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) بإيجاز.
وبني فعل (زُيِّنَ) للمجهول ليشمل المزيّنين لهم من أئمة كفرهم ، وما سولته لهم أيضا عقولهم الآفنة من أفعالهم السيئة اغترارا بالإلف أو اتباعا للذات العاجلة أو لجلب الرئاسة ، أي زيّن له مزيّن سوء عمله ، وفي هذا البناء إلى المجهول تنبيه لهم أيضا ليرجعوا إلى أنفسهم فيتأمّلوا فيمن زيّن لهم سوء أعمالهم. ولمّا كان تزيين أعمالهم لهم يبعثهم على الدأب عليها كان يتولد من ذلك إلفهم بها وولعهم بها فتصير لهم أهواء لا يستطيعون مفارقتها أعقب بقوله : (وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ).
والفرق بين الفريقين بيّن للعاقل المتأمل بحيث يحق أن يسأل عن مماثلة الفريقين سؤال من يعلم انتفاء المماثلة وينكر على من عسى أن يزعمها. والمراد بانتفاء المماثلة الكناية عن التفاضل ، والمقصود بالفضل ظاهر وهو الفريق الذي وقع الثناء عليه.
(مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ (١٥))
استئناف بياني لأن ما جرى من ذكر الجنة في قوله : (إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) [محمد : ١٢] مما يستشرف السامع إلى تفصيل بعض صفاتها ، وإذ قد ذكر أنها تجري من تحتها الأنهار موهم السامع أنها أنهار المياه لأن جري الأنهار أكمل محاسن الجنات المرغوب فيها ، فلما فرغ من توصيف حال