وقرأ الجمهور (وَأَمْلى لَهُمْ) بفتح الهمزة على صيغة المبني للفاعل. وقرأه أبو عمرو بضم الهمزة وكسر اللام وفتح التحتية على صيغة المبني إلى المجهول. وقرأه يعقوب بضم الهمزة وكسر اللام وسكون التحتية على أنه مسند إلى المتكلم فالضمير عائد إلى الله تعالى ، أي الشيطان سوّل لهم وأنا أملي لهم فيكون الكلام وعيدا ، أي أنا أؤخرهم قليلا ثم أعاقبهم.
(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ (٢٦))
استئناف بياني إذ التقدير أن يسأل سائل عن مظهر تسويل الشيطان لهم الارتداد بعد أن تبين لهم الهدى ، فأجيب بأن الشيطان استدرجهم إلى الضلال عند ما تبين لهم الهدى فسوّل لهم أن يوافقوا أهل الشرك والكفر في بعض الأمور مسولا أن تلك الموافقة في بعض الأمر لا تنقض اهتداءهم فلما وافقوهم وجدوا حلاوة ما ألفوه من الكفر فيما وافقوا فيه أهل الكفر فأخذوا يعودون إلى الكفر المألوف حتى ارتدوا على أدبارهم. وهذا شأن النفس في معاودة ما تحبه بعد الانقطاع عنه إن كان الانقطاع قريب العهد.
فمعنى (قالُوا) : قالوا قولا عن اعتقاد ورأي ، وإنما قالوا : (فِي بَعْضِ الْأَمْرِ) احترازا لأنفسهم إذا لم يطيعوا في بعض.
و (لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ) هم الذين كرهوا القرآن وكفروا ، وهم : إما المشركون من أهل مكة قال تعالى فيهم (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ) [محمد : ٩] وقد كانت لهم صلة بأهل يثرب فلما هاجر النبي صلىاللهعليهوسلم إلى المدينة اشتد تعهد أهل مكة لأصحابهم من أهل يثرب ليتطلعوا أحوال المسلمين ، ولعلهم بعد يوم بدر كانوا يكيدون للمسلمين ويتأهبون للثأر منهم الذي أنجزوه يوم أحد. وإما اليهود من قريظة والنضير فقد حكى الله عنهم في قوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) [الحشر : ١١].
فالمراد ب (بَعْضِ الْأَمْرِ) على الوجه الأول في محمل قوله : (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ) [محمد : ٢٥] إفشاء بعض أحوال المسلمين إليهم وإشعارهم بوفرة عدد المنافقين وإن كانوا لا يقاتلون لكراهتهم القتال. والمراد ب (بَعْضِ الْأَمْرِ) على الوجه الثاني بعض أمر القتال ، يعنون تلك المكيدة التي دبروها للانخزال عن جيش المسلمين.