الدارين من أحوال الناس الذين هم أشرف ما على الأرض بمناسبة قوله : (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ) [النجم : ٣٠] المراد به الإشارة إلى الجزاء وهو إثبات لوقوع البعث والجزاء.
فالمقصود الأصلي من هذا الكلام هو قوله : (وَما فِي الْأَرْضِ) لأن المهم ما في الأرض إذ هم متعلق الجزاء ، وإنما ذكر معه ما في السماوات على وجه التتميم للإعلام بإحاطة ملك الله لما احتوت عليه العوالم كلها ونكتة الابتداء بالتتميم دون تأخيره الذي هو مقتضى ظاهر في التتميمات هي الاهتمام بالعالم العلوي لأنه أوسع وأشرف وليكون المقصود وهو قوله : (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا) الآية مقترنا بما يناسبه من ذكر ما في الأرض لأن المجزيين هم أهل الأرض ، فهذه نكتة مخالفة مقتضى الظاهر.
فيجوز أن يتعلق قوله : (لِيَجْزِيَ) بما في الخبر من معنى الكون المقدّر في الجار والمجرور المخبر به عن (ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي كائن ملكا لله كونا علته أن يجزي الذين أساءوا والذين أحسنوا من أهل الأرض ، وهم الذين يصدر منهم الإساءة والإحسان فاللام في قوله : (لِيَجْزِيَ) لام التعليل ، جعل الجزاء علة لثبوت ملك الله لما في السموات والأرض.
ومعنى هذا التعليل أنّ من الحقائق المرتبطة بثبوت ذلك الملك ارتباطا أوّليّا في التعقل والاعتبار لا في إيجاد فإن ملك الله لما في السماوات وما في الأرض ناشئ عن إيجاد الله تلك المخلوقات والله حين أوجدها عالم أن لها حياتين وأن لها أفعالا حسنة وسيئة في الحياة الدنيا وعالم أنه مجزيها على أعمالها بما يناسبها جزاء خالدا في الحياة الآخرة فلا جرم كان الجزاء غاية لإيجاد ما في الأرض فاعتبر هو العلة في إيجادهم وهي علة باعثة يحتمل أن يكون معها غيرها لأن العلة الباعثة يمكن تعددها في الحكمة.
ويجوز أن يتعلق بقوله : (أَعْلَمُ) من قوله : (هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ) [النجم : ٣٠] ، أي من خصائص علمه الذي لا يعزب عنه شيء أن يكون علمه مرتبا عليه الجزاء.
والباءان في قوله : (بِما عَمِلُوا) وقوله : (بِالْحُسْنَى) لتعدية فعلي (لِيَجْزِيَ) و (يَجْزِيَ) فما بعد الباءين في معنى مفعول الفعلين ، فهما داخلتان على الجزاء ، وقوله : (بِما عَمِلُوا) حينئذ تقديره : بمثل ما عملوا ، أي جزاء عادلا مماثلا لما عملوا ، فلذلك جعل بمنزلة عين ما عملوه على طريقة التشبيه البليغ.