ومعنى (يُرى) يشاهد عند الحساب كما في قوله تعالى : (وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً) [الكهف : ٤٩] ، فيجوز أن تجسم الأعمال فتصير مشاهدة وأمور الآخرة مخالفة لمعتاد أمور الدنيا. ويجوز أن تجعل علامات على الأعمال يعلن بها عنها كما في قوله تعالى : (نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ) [التحريم : ٨]. وما في الحديث «ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة فيقال : هذه غدرة فلان» فيقدر مضاف تقديره : وأن عنوان سعيه سوف يرى.
ويجوز أن يكون ذلك بإشهار العمل والسعي كما في قوله تعالى : (أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ) [الأعراف : ٤٩] الآية ، وكما قال النبيصلىاللهعليهوسلم : «من سمع بأخيه فيما يكره سمع الله به سامع خلقه يوم القيامة» ، فتكون الرؤية مستعارة للعلم لقصد تحقق العلم واشتهاره.
وحكمة ذلك تشريف المحسنين بحسن السمعة وانكسار المسيئين بسوء الأحدوثة.
وقوله : (ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى) هو المقصود من الجملة.
و (ثُمَ) للتراخي الرتبي لأن حصول الجزاء أهم من إظهاره أو إظهار المجزي عنه.
وضمير النصب في قوله : (يُجْزاهُ) عائد إلى السعي ، أي يجزى عليه ، أو يجزى به فحذف حرف الجر ونصب على نزع الخافض فقد كثر أن يقال : جزاه عمله ، وأصله : جزاه على عمله أو جزاه بعمله.
والأوفى : اسم تفضيل من الوفاء وهو التمام والكمال ، والتفضيل مستعمل هنا في القوة ، وليس المراد تفضيله على غيره. والمعنى : أن الجزاء على الفعل من حسن أو سيئ موافق للمجزيّ عليه ، قال تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) [النساء : ١٧٣] وقال : (وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ) [هود : ١٠٩] وقال : (وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ) [النور : ٣٩] وقال : (فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً) [الإسراء : ٦٣].
وانتصب (الْجَزاءَ الْأَوْفى) على المفعول المطلق المبين للنوع.
وقد حكى الله عن إبراهيم (وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ) [الشعراء : ٨٧].
(وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى (٤٢))