(هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى (٥٦))
استئناف ابتدائي أو فذلكة لما تقدم على اختلاف الاعتبارين في مرجع اسم الإشارة فإن جعلت اسم الإشارة راجعا إلى القرآن فإنه لحضوره في الأذهان ينزل منزلة شيء محسوس حاضر بحيث يشار إليه ، فالكلام انتقال اقتضابي تنهية لما قبله وابتداء لما بعد اسم الإشارة على أسلوب قوله تعالى : (هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ) [إبراهيم : ٥٢].
والكلام موجه إلى المخاطبين بمعظم ما في هذه السورة فلذلك اقتصر على وصف الكلام بأنه نذير ، دون أن يقول : نذير وبشير ، كما قال في الآية الأخرى (إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [الأعراف : ١٨٨].
والإنذار بعضه صريح مثل قوله : (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا) [النجم : ٣١] إلخ ، وبعضه تعريض كقوله : (وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى) [النجم : ٥٠] وقوله : (وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) [النجم : ٤٢].
وإن جعلت اسم الإشارة عائدا إلى ما تقدم من أول السورة بتأويله بالمذكور ، أو إلى ما لم ينبأ به الذي تولى وأعطى قليلا ، ابتداء من قوله : (أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى) [النجم : ٣٦] إلى هنا على كلا التأويلين المتقدمين ، فتكون الإشارة إلى الكلام المتقدم تنزيلا لحضوره في السمع منزلة حضوره في المشاهدة بحيث يشار إليه.
و «النذر» حقيقته المخبر عن حدوث حدث مضرّ بالمخبر (بالفتح) ، وجمعه : نذر ، هذا هو الأشهر فيه. ولذلك جعل ابن جريج وجمع من المفسرين الإشارة إلى محمدصلىاللهعليهوسلم وهو بعيد.
ويطلق النذير على الإنذار وهو خبر المخبر على طريقة المجاز العقلي. قال أبو القاسم الزجاجي : يطلق النذير على الإنذار (يريد أنه اسم مصدر) ومنه قوله تعالى : (فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ) [الملك : ١٧] أي إنذاري وجمعه نذر أيضا ، ومنه قوله تعالى : (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ) [القمر : ٢٣] ، أي بالمنذرين. وإطلاق نذير على ما هو كلام وهو القرآن أو بعض آياته مجاز عقلي ، أو استعارة على رأي جمهور أهل اللغة وهو حقيقة على رأي الزجاجي.
والمراد بالنذر الأولى : السالفة ، أي أن معنى هذا الكلام من معاني الشرائع الأولى كقوله النبي : «إنّ مما أدرك الناس من كلام النبوءة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت»