عطية : واختلف الناس في (الْمَحْرُومِ) اختلافا هو عندي تخليط من المتأخرين إذ المعنى واحد عبر علماء السلف في ذلك بعبارات على جهة المثالات فجعلها المتأخرون أقوالا. قلت ذكر القرطبي أحد عشر قولا كلها أمثلة لمعنى الحرمان ، وهي متفاوتة في القرب من سياق الآية فما صلح منها لأن يكون مثالا للغرض قبل وما لم يصلح فهو مردود ، مثل تفسير من فسر المحروم بالكلب. وفي «تفسير ابن عطية» عن الشعبي : أعياني أن أعلم ما المحروم. وزاد القرطبي في رواية عن الشعبي قال : لي اليوم سبعون سنة منذ احتملت أسأل عن المحروم فما أنا اليوم بأعلم مني فيه يومئذ.
(وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (٢٠))
هذا متصل بالقسم وجوابه من قوله : (وَالذَّارِياتِ) [الذاريات : ١] وقوله : (وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ) إلى قوله : (وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ)(١) [الذاريات : ٦ ، ٧] فبعد أن حقق وقوع البعث بتأكيده بالقسم انتقل إلى تقريبه بالدليل لإبطال إحالتهم إياه ، فيكون هذا الاستدلال كقوله : (وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى) [فصلت : ٣٩].
وما بين هاتين الجملتين اعتراض ، فجملة (وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ) يجوز أن تكون معطوفة على جملة جواب القسم وهي (إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ) [الذاريات : ٥]. والمعنى : وفي ما يشاهد من أحوال الأرض آيات للموقنين وهي الأحوال الدالة على إيجاد موجودات بعد إعدام أمثالها وأصولها مثل إنبات الزرع الجديد بعد أن باد الذي قبله وصار هشيما. وهذه دلائل واضحة متكررة لا تحتاج إلى غوص الفكر فلذلك لم تقرن هذه الآيات بما يدعو إلى التفكر كما قرن قوله : (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) [الذاريات : ٢١].
واعلم أن الآيات المرموقة من أحوال الأرض صالحة للدلالة أيضا على تفرده تعالى بالإلهية في كيفية خلقها ودحوها للحيوان والإنسان ، وكيف قسمت إلى سهل وجبال وبحر ، ونظام إنباتها الزرع والشجر ، وما يخرج من ذلك من منافع للناس ، ولهذا حذف تقييد آيات بمتعلّق ليعمّ كل ما تصلح الآيات التي في الأرض أن تدل عليه. وتقديم الخبر في قوله : (وَفِي الْأَرْضِ) للاهتمام والتشويق إلى ذكر المبتدأ.
__________________
(١) في المطبوعة : وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ إلى قوله : وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ ، والمثبت هو الأنسب للسياق.